مقال : مائة كلمة وكلمة بعدَ مرُورِ مائة سنة من رحيل السيد الحاج مالك سي رضيَ الله عنهُ، تُرَى أين تكمنُ سرّ نجاحِ مشروعه الاجتماعي والدعوي؟!

0
621

——————————

كتب / الحاج مور نياغ الجلوفي .

إنه هو الشيخ السيد الحاج مالك سي رضي الله عنه (١٨٥٣م-١٩٢٢م) أحد أبرز العلماء العاملين، والدعاة المخلصين في المنطقةِ والسنغال بصفة أخص. ولدَ مع بداية سيطرة المستعمرين الغاشمين لمنطقة إفريقيا الغربية، ثم ترعرع في بيتِ علم وشرف عرف آباؤه بالعلم والكرم، ونشر الثقافة الاسلامية في المنطقة منذ عهد الجد الشيخ “جَمَ سي” [Diama Sy] المشهور عند البيضان بالسيد شمس الدين القلقمي. فجده السيد الحاج مالك سي الساكن في “بُوندُ” [Boundou] هوَ أول من أقام دولة اسلامية في السنغال، وذلك في النصف الأول من القرن السابع عشر الميلادي.

فبعد أن بلغ السيد مالك سي سن التمدرس أخذ القرآن الكريم عن الشيخ مالك صو أحد رموز العلم في قرية غاية [Gaaya] وعن خاله الفاهم يرو ولي أيضا قيل أن يسافر إلى جلوف مسقط رأس والده لكي يتعارف مع إخوته هناكَ…رجع السيد مالك سي إلى اندوفال [Ndoofaal] ثم شرع في دراسة العلوم الشرعية وكذلك العلوم اللغوية، وهذا ما جعله يجوب القرى والمدن سعيا وراء هذه الآية الكريمة {فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرونَ} فمر بفوتَ طورُ، اندر، كجور، وكَنجول، وأخذ عن أشهر علماء عصره، يمكن أن نذكر منهم الشيخ “مسيلا ماني” في قرية “جِلْلَ درمان” [Thille Dramane] ذاك العالم الجليل الذي اشتهر بمعارضتهِ لبُغية دميل لتجور جوب [Lat dior] في تنصيب نفسه كأمير للمؤمنين في كجور وذلك بعد رجوعه من “نيورو” [Nioro] وحسن إسلامه ثم جاهد مع الإمام تفسير مابا جخو التجاني إلى أن استشهد هذا الأخير في معركة صومبُ عام ١٨٦٨م. ومنهم أيضا الشيخ محمد انجاي ما بيي في مدينة “اندر” والشيخ الفقيه الفاهيم يرو ولي الذي أعطاه السبحة التجانية تنفيذا لوصية الشيخ الحاج عمر في هذا الغلام الفطن من سيبلغ دعوته _ الشيخ عمر _ إلى أقصى غرب القارة السمراء.

والسيد الحاج مالك سي كان له مشروع اجتماعي، يمكن القول بأنه جاء به أثناء رجوعه من الحج، وقصته مع ذاك الشيخ الجليل الذي أوصاه بالرجوع إلى أرض السنغال بعد أن عزم الحاج مالك مجاورة الحبيب مصطفى عليه السلام إلى الأبد. ولما وصلَ إلى مدينة “اندر” نصب كرسيا للتدريس وذلك في بداية التسعينات من القرن التاسع عشر الميلادي، ثم بدأ يفكر في الشروع إلى مشروعه الدعوي النبيل، فتبنى المنهج السلمي، وبهذا يمكن القول بأن الحاج مالك _ بيد أنه هو وارث الشيخ الحاج عمر الفوتي _ فقد ترك المواجهة السيفية التي اشتهر بها الدعاة التجانيون قبله وما عهد الإمام تفسير مابا جخو ببعيد؛ والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما هو سر نجاح مشروع الشيخ الحاج مالك سي الدعوي؟! ومن خلال الأسطر التالية سأحاول عرض عاملين أساسيين في نجاح مشروعه الاجتماعي والدعوي وهما:

١- استعماله المنهج السلمي.

٢- الثلاثية الذهبية في مشروع الشيخ الحاج مالك.

ففي النقطة الأولى سأقوم بسرد بعض الأسباب التي دفع الشيخ إلى اختيار هذا المنهج الأصيل في الدعوة والإصلاح، ذاك المنهج الذي اشتهر مع الأنبياء إلى أن وصل إلى العباقرة أمثال الشيخ الحاج مالك سي، مهتما غاندي (١٨٦٩م-١٩٤٨م) الشيخ أحمد بمبا (١٨٥٤م-١٩٢٧م) والسيد الرئيس نلسون مانديلاَ (١٩١٨م-٢٠١٣م).

وفي النقطة الثانية سأقوم بشرح الثلاثية الذهبية وكيف شاركت هذه الثلاثية في نجاح مشروع الشيخ الاجتماعي، وتحقيق هدفه قبل أن يستيقظ البيض من سباته العميق!

١- المنهجُ السلمي عندَ الشيخ الحاج مالك سي:

إن استعمال المنهج السلمي في الدعوة ليس بجديد في تاريخِ الانسانية وبالأخص في منطقة افريقيا السوداء التي عرفوا بكرامتهم وقبولهم فلسفة “الرأي والرأي الآخر” أرسل سيدنا محمد عليه السلام أصحابه الى الحبشة مرتين، وروى جل الباحثين بأن الاسلام دخل المنطقة بلغة المعاملة الحسنة التي كان التجار يمارسونها مع سكان المنطقة. فيمكن القول بأن المنهج السلمي منهج أصيل مارسه الرسول عليه السلام في عهد مكة وحتى في العهد المدني، بيد أنه استعمل السيف للدفاع عن نفسه وعن دولته الإسلامية، لذا يمكن القول بان الشيوخ العلماء الذي جاهدوا بالسيف والقلم تبعوا في ذلك سنة خير البشر الرحمة المهداةِ، فمن هؤلاء الرجال الذين اشتهروا بالمواجهة السيفية في هاته المنطقة:

 الشيخ ناصر الدين الموريتاني (١٦٤٥م-١٦٧٤م)

الشيخ الحاج مالك سي في بوندو (١٦٥٠م-١٦٩٩م)

الشيخ الحاج عمر الفوتي الحلواري (١٧٩٤م-١٨٦٤م) والإمام تفسير مابا جخو باه (١٨٠٩م-١٨٦٧م)

الشيخ محمد الأمين درامي (١٨٤٠م-١٨٨٧م)

دميل لتجور انغوني لتير جوب (١٨٤٢م-١٨٨٦م)

وبعد معركة “سمب ساجُو” عام ١٨٧٥م التي دارت بين المسلمين أنفسهم أهل كجور بزعامة دميل لتجور، وأهل فوت طورُ بقيادة الشيخ التجاني الفوتي خسر المسلمون كثيرا، واستغل الاستعمار هذه الفرصة لأخذ نصيبه من غنيمة الحرب، فأحرقوا _ المستعمرين _ قرى كثيرة في فوت طورُ بمساعدة الفولانيين، كما ساعدوا لتجور لتدمير الجيش الفولاني فصار مستقبل الاسلام والمسلمين في ليل لم ينجل نهاره بعد، فقتل الاستعمار بعض الشيوخ العلماء ونفوا البعض الآخر خارج البلد، وخلال هاته الظروف الحرجة ظهرَ في الساحة الدعوية والاجتماعية الشيخ الجليل، مربي الأجيال الحاج مالك سي بحكمته وعبقريته فتبنى المنهج السلمي، وذلك لعدة أسباب:

١- سيطرة الاستعمار على البلد طولا وعرضا، وهذا هو السبب الأهم؛ لأن البيض تحالفوا مع بعض الأمراء في فوتا طور، جلوف وكجور، سين وسالم. وذلك لامتلاكهم الأسلحة الحديثة وسيطرته على اقتصاد البلد بعد أن نجحوا في مد السكة الحديدية التي تربط بين دكار واندر، وَغلبت التجارة الأطلنتكية على التجارة الساحلية التي كان العرب والبربر يمتلكون زمامها. فلم يجد العلماء أمثال السيد الحاج مالك والشيخ أحمد بمبا بدا من استعمال السيف ضد البيض او التفكير في ذلكَ؛ لأن  العاقل يدرس بتجارب أسلافهِ. وقيل بأن مود كان يقول ما معناه: “صاحب السبحة لا يحارب صاحب المدفعة” فتبنى هذا المنهج مبكرّا وهو لم يزل يومئذ طالبا في كجور، جاء في كتاب “التجانية في الأدب السنغالي العربي للمؤلف الدكتور عثمان جاه” أن القاضي الأريب مجختي كلا [Ma Diakhate Kala] قد أرسل رسولا إلى “مود” [Maodo] يطلب منه أن يستعمل السيف على هؤلاء الطغاة مثل شيخه الحاج عمر الفوتي، فأجابه السيد الحاج مالك أنه لا يرى ذلك لأن فيه مهلكة للمسلمين…فرفض فكرة الجهاد بالسيف الذي طلبه منه القاضي [راجع فضلا عثمان جاه، التجانية في الأدب السنغالي العربي صفحة ١٧٧]. وعلمه التام بالواقع وقبوله أيضا جعله يفر دائما من ملاقاة جيش الاستعمار، حتى ذهب به حنكته وعبقريه الدعوية أن ينصح طلابه وأهله بعدم مخالفة أمر الادارة الفرنسية ما لم يمنعكم عن ممارسة أمور دينكم، ظهر ذلك في رسالته الأولى عام ١٩١٢م التي وجهها الى طلابه وكذلك في رسالته الثانية عام ١٩١٤م.

فساعد الحاج مالك سي الاستعمار في ما يخص أمر البلد، ويدفع سير نهضة السنغال إلى الأمام، وهكذا نجح في تنفيذ مشروعه الاجتماعي والدعوي فبنى الزوايا ووزع المقدمين طول البلاد وعرضها، ولم يتعاون (Collaboration) مع البيض قط وانما قبل [Maodo] الواقع ثم تَأَقْلَمَ ليترك بصماته. (Cette attitude n’a jamais été pour les sénégalais synonyme de collaboration aves le colonisateur. Au contraire on la considère aujourd’hui comme une attitude normale et réaliste) راجع فضلا كتاب (Le temps des marabouts p, 195) فالشيخ الحاج مالك سي اذا سبقَ معاصريه في المنطقة _ الا القادريين _ باستعمال هذا المنهج السلمي، زد على ذلك معاصير في العالم أمثال السيد مهتما غاندي [Gandi] وغيرهُ، فهو _ مَوْدُ _ علم مفرد في الإستراتيجية، وفيلسوف واع بمسؤوليته لتنفيذ مشروعهِ. فلا غروَ إذا أن يقول في حقه الكاتب بول مارتي:

‏(marabout le plus instruit du Sénégal) ويقول الشيخ أحمد التجاني سي المكتوم أيضا اظهارا لعبقرية هذا السيد الكريم في المعاملة مع الطلاب والاستعمار:

وكان يرى مستعمرا مثل طالب

مؤدب حتى لا يسي بفعالهِ

وكم أمر السلطات بالعدل بينها

وبين عباد الله وفق اعتدالهِ

فاستعمال المنهج السلمي ليسَ ضعفا وانما هو حيلة العباقرة للمقاومة والنضال في عدم تكافئ القوتينِ  وعندما عرف الاستعمار بأن هذا الشيخ لا يشكل خطرا لمشروعهم السياسي والاجتماعي _ وهم في سبات عميق بزعمهم هذا _ لأنهم يرونه كل يوم قرب دارهم يذكر الله تعالى في مسجده، يروح الى الحقول، ويدرس طلابهُ جميع العلومِ والمعارفِ _ وهذا هو الصلاح الأقوى لمن أراد أن يحرر شعبا ويخرجهم من الظلمات الى النورِ ولو طالَ الزمن! _ لم يرفضوا له طلبا بيد أنه لم يطلب منهم شيئا اللهم الا ترخيصا لبناء زواياهُ ومد حقوله لكي لا يكون عالة بين الناسِ. وربما لأجل هذا يقول موريبا ماكاسوبا “بانه مالك جعل حب دينه فوق حب وطنه” [راجع فضلا الاسلام في السنغال ص ٤٣ نقلا عن عثمان جاه] وكيف يفسر لنا كاتب هذه السطور ارسال الحاج مالك سي ابنه السيد أحمد سي إلى العسكر في تييس [Thies] ليشارك معَ جنود الفرنسيين في الحرب العالمية الأولى حتى توفي هناك وفي سلونك [Salonik] بالضبط عام ١٩١٤م. علما بأن السنغال يومئذ كانت تحت سيطرة فرنسا، وحماية الوطن من واجب المواطنين، وكيف يفسر أيضا مشاركاته الفعالة لترسيخ الأمن والسلام في البلد؟ ومساعدته حاكم السنغال عندما رفضَ الشعب أخذ اللقاح لمنع انتشار الوباء؟! فالمسلم الصالح هو المواطن المثالي لأنه لا فرق في الإسلام بين العبادات والمعاملات فكلها داخلة في طاعة الرب الذي قال: {إني جاعل في الأرض خليفة} وقال أيضا: {واستعمركم فيها} وفي آية أخرى يقول: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمَلا}.

والسؤال الذي يطرح نفسه هوَ: هل علامة حب الوطن هو مواجهة العدو بالسيف فقط؟ أم أن هنالك علامات أخرى لم يعرفها الكاتب؟! فلو الحاج مالك ومنهجه السلمي لمسح المبشرون كثيرا من بصمات الاسلام في البلد، ولضاعَ أكثر تراث المسلمين بصفة عامة والتجانيين بصفة خاصة.

ولما زاره الشيخ الجليل الحاج عبد الله نياس حوالي عام ١٩١٠م مريدا الرجوع إلى منفاه الاختياري في غامبيَا [Gambia] نصحه الشيخ الحاج مالك بالمكوث في أرض الوطن لأن السنغال بحاجة ماسة اليه وبالأخص الساحة الدعوية، فتوسّط  بينه وبين الحكام حتى استقر الحاج عبد الله نياس في كولخ، ولو لم يفعل الحاج مالك سي الا هذا، لوجب على السناغلة شكره وتقدير هذا الفعل الذي بسببهِ افتخر العالم بشيخ الاسلام الحاج ابراهيم نياس وبأخيه خليفة الحاج رضي الله عنهما. وقد خلد هذا الفعل الجلل الشيخ امباكي بوسو عندما قالَ:

يَا ثُلْمَةً فِي دِينِنَا الْإِسْلَامِ

مِنْ قَلْعِ قَرْنَيْ هَامَةِ الْأَعْلَامِ

السَّيِّدَيْنِ الْعَالِمَيْنِ السَّالِكَيْـ

ـنِ الْـمُسْلِكَيْنِ لِحَضْرَةِ الْعَلَّامِ

شَمْسٌ وَشَمْسٌ عَامَ شَمْسٍ غَابَتَا

فَبَكَى الْوَرَى لِتَكَاثُفِ الْإِظْلَامِ

فمن أراد معرفة تاريخ رجل عاشَ بين الاستعمار ولم يحدث بينه وبينهم أي اشتباك رغم شدة المراقبة، وكتب أيضا لمشروعه الاجتماعي والدعوي نجاحا باهرًا، ولم يحد يوما عن الكتاب والسنة فلينظر الى الشيخ الغريب، والداعي الأريب الحاج مالك سي رضي الله عنه.

٢- ومن الأسباب التي جعلَ الشيخ يستعمل المنهجَ السِّلمِيِّ كما ذكره الباحثونَ: كونه غريبا في منطَقَةِ كجورْ، لأجل هذا فالظروف لا تسمح له أن يستعمل المواجهة السيفية خوفا من ألا يستجيبَ الناس لدعوتهِ (انظر فضلا: زمن الشيوخ، دافيد روبنسون وَ جان لويس تِرِيُود) بيدَ أن هذا السبب ليسَ قويّا لأن الشيخ لم يختر العمل في تواوون نهائيا إلا عام ١٩٠٢م، ثانيا أن شيخه الحاج عمر الفوتِي ولد في حلوار وجاهد مع الوثنيين والبيض في مالي [Mali] خارجا عن أرض أجدادهِ، وقل مثل ذلك في الشيخ الحاج مالك سي بُوندُو. وذكرَ بعض الباحثينَ قوة تأثيرِ العاطفية؛ وذلك لأن الثأر عن قتلَة والده من “تيدُو” من الواجبات والأولوياتِ، وهذا السبب أيضا بعيد كل البعد عن أخلاقيات الشيخ الحاج مالك سي وعن سلوكهِ تجاه الكفار والاستعمار ناهيك عن بني جنسهِ وإن كانوا من أهل “تيدو” [Thieddo] ومن يقرأ التاريخ يرى بأنه لم يكن في المنطقة بعدَ سقوط كجور ووفاة لتجور قوة تيدوية يعرقل شيئا يذكر عن دعوة الاسلام وعن النفوذ الاستعماري.

ولكني أرى بأن أفول نجم اهل “تيدو” وقصدهم بيوت العلماء والشيوخ جعل الشيخ يختار المنهج السلمي؛ لأنهم دخلوا الاسلام مع بضائعهم المزجاة من الشعوذة والسحر، ولا بد من حماية بيضة الأنوق قبل أن يشوهها العاداتُ والتقاليدُ. فشيوخ “لَمبُ” [Serigne Lamb] يختلفون عن شيوخ “فَكْ تَالْ” [Fakk Taal] فالفئة الأولى مشعوذون يحتاجهم الملوك لحماية ملكهم من التلفِ، والفئة الأخرَى هم العلماء المخلصونَ الذين يعملون لنشر الدين الحنيف والثقافة الإسلامية، فاختار الشيخ التربية بالهمة والحال التي هي الرجوع الى الكتاب والسنة كما بينه وشرحه في كتابه افحام المنكر الجاني. يقول الكاتب ابرهيم مرون “وقد عزم الشيخ مفارقة كل طالب يحيد عن تعاليم الشريعة الاسلامية ولو أنه جاء من الأسر الأرستقراطية.فالشيخ [Maodo] بعد أن قرأ سيكلوجية المدعوينَ، وعلم بأن جلهم يحتاجون الى جهاد النفس أكثر مما يحتاجون الى الجهاد الأصغر شمرَ للتوعية والتثقيف، وسيظهر آثار هذه المجهوداتِ في النقطة التالية.

٢- الثلاثية الذهبية في دعوة الشيخ الحاج مالك سي

فلا يمكن ذكر نتائج دعوة الشيخ الحاج مالك سي بدونِ الإشَارَةِ إلى الأساليب التي اتخذها لتنفيذ مشروعه الاجتماعي والدعوي. فلا يسمح لي الوقت بذكر جل الأساليب ولكني أفضل ذكر ثلاثة منهَا سميتها بالثلاثية الذهبية وذلك لأهميتهَا في نجاحِ مشروع الشيخ الحاجِ وهي:

١- فكرة بناء الزوايا.

٢- فكرة المقدم.

٣- فكرَةُ إحياءِ ليلةِ المولدِ.

١- فبناء الزوايَا ليس جديدا في تاريخ الاسلام في افريقيا، فقد اشتهر مع أهل المغرب وموريتانيَا، فإن الشيخ عبد الله بن ياسينَ وَجدَه الملك ابوبكر بن عمر في رباط شيخه ثم جاء به الى المنطقة لتثقيف أهله وشعبهِ، ولما لم يقبل القوم  _ من الصنهاجة وغيرها _ دعوته سافر مع طلابه الى قرب نهر السنغال (المشهور قرب جزيرة اندر) في القرن الحادي عشر الميلادي، فبنى فيها رباطه الشهير للتوعية والتثقيف والعبادة، وبفضل مجهوداته هذه انتشر الاسلام في المنطقة بقوة، ودخل الناس في دين الله أفواجًا. وقل مثل ذلك في الشيخ الحاج عمر الفوتي الذي سافر مع قومه عند أرض الملك يامبَا في منطقة دنغراي [Dinguiraay] فبنى رباطه هناك لتكوين أتباعه وأحبانه. ولكن الفرق بين رباط (الزوايا) الحاج عمر وأسلافه أنه اتخذَ رباطه للتعليم والتثقيف والزراعة، ولم يفكر يوما في مواجهة البيض بالسيف وذلك للأسباب التي ذكرناها في الأسباب التي دفعَ الشيخ الحاج مالك إلى تبني المنهج السلمي.

فأول رباط للشيخ _ قبلَ الزوايا الثلاثة المشهورة _ هو “جَارندِي” [Ndiarndé] تلك القرية التاريخية الكائنة في كجور، وبعد قرية بير [Pire] مدينة العلم والمعرفة، ففي هذا الرباط كون الشيخ الفوج الأول من طلابه الذين نشروا الإسلام في جميع ربوع السنغال بالحكمة والموعظة الحسنةِ.

واختلفت الرواة في أسباب انتقال الشيخ من “اندر” الى “جارندي” وذكر الباحث أحمد عمار _ في بحثه الجامعي الذي عنونه ب (فترة انجاردي في حياة الشيخ الحاج مالك) _ أربعة أسباب، وهي كاتالي: سبب ديني، وسياسي، واجتماعي واقتصادي؛ بيد أني أركز في السبب الديني والسياسي لأن هما أساس انتقال الشيخ على المشهور.لأنه لا يخفى أن أحد أن الإدارة الفرنسية في سينت لويس وضعت قدمها على جل حدود الوطن، وتحالف مع بعض الأمراء في جلوف، فوت طورُ وكجور وذلك في الثمانيات من القرن التاسع عشر الميلادي. فبعد هلاك دميل لتجور، واستشهاد الشيخ محمد الأمين درامي زد على ذلك خروج ألبري من جلوف بعد أن خذله أهله، سيطرت البيض على المنطقةَ وشرعت في تنفيذ المشروع الثقافي والاقتصادي الذي رسمه الحاكم السنغالي السفاح لويس فهديرب بعد عام ١٨٥٥م عندما هزمَ أميرة والو، وأخرج الحاج عمر الفوتي عن حدود السنغال. ثم قتل الحاكم الطاغي فهديرب بعض الشيوخ وطلابهم، وأحرق قرى كثيرة وذلك لتخويف الشعب السنغالي، وانذارهم لعدم مساعدة بعض العظماء الذين يحاولون الهجوم على ممتلكاتهم آجلا أم عاجلا. فسافر الشيخ الحاج مالك الى جاردي وبدأ يخطط لتنفيذ مشروعه الاجتماعي والدعوي، وبعد أن مكث الشيخ في جاردي سبع سنوات أزمع الانتقال إلى تواوون التي صارت فيما بعد عاصمة التجانية في السنغال.

ومن الزوايا التي بناها الشيخ لأجل مواجهة الغزو الفكري الأروبي؛ زاوية “اندر” عاصمة الاستعمار قبل عام ١٩٠٢م، وزاوية دكار المدينة الجديدة _ يومئذ _ التي بناها الاستعمار لتنفيذ مشروعهم الاقتصادي والسياسي وذلك في محاولة الربط بين مدينة اندر ومدينة دكار بواسطة السكة الحديدية. والجدير بالذكر أن هذه الزاوية غير بعيدة عن مقر الحاكم السنغالي، واذكر أيضا زواية تواوون المشهورة التي لعبت دورا لا يستهان به في نشر الاسلام والطريقة التجانية في السنغال، [راجع فضلا، بحث الدكتور بشير انغوم]. فمن يمعن النظر في مكان هاته الزوايا الثلاثة يرى عمق إستراتيجية الشيخ الحاج مالك سي في عرقلة مشروع الاستعمار الثقافي والاجتماعي.

٢- فكرة المقدم “السفير بمفهومه المالكي” لم ينشئه الشيخ الحاج مالك سي؛ ولكنه عمل في تطورهِ واعطائه مفهوما آخرَ، فصار المقدمون مثل السفراء والقناصلة لدى السياسيينَ، فكان الحاج مالك رضي الله عنه يكون أتباعه في “جاردي” ثم يرسل بعضهم إلى أهليهم والبعض الآخر إلى أمصار أخرى ليعلموا الناسَ ويهديهم إلى طرق الخيرِ، حتى قيل بأن للحاج مالك مقدمين خارج السنغال مثل غمبِيَا، غَابُون، وساحل العاج. [ راجع فضلا، دكتور جيم عثمان درامي، الشيخ أحمد الصغير لوح] فجل شيوخ الشيخ أحمد الصغير لوح هم من خريج المدرسة المالكية التواوونية. فكان للمقدم يومئذ عمل جليل يرتكز في التعليم والارشاد بخلاف المقدم اليوم الذي يغتنم الفرصة لأكل أموال الناس بالدين، وأخذ الهدايا التي قالَ فيها الشيخ الحاج بأنها _ الهدية في هذا الزمان _ رشوةٌ؛ فكل بالغ عاقل يرى بأن الهدية في زمننا هذا _ وبالأخص ما يقدمها الساسة ورجال الأعمال إلى الشيوخ والمتشيخين _ جلها رشوة.

فنادرا ما تذهب الى منطقة في السنغال ولا ترى فيها شيخا مبعوثا من قبل الشيخ الحاج مالك لنشر الثقافة الإسلامية، ومن يريد الوقوف على أسماء بعض المقدمين والمناطق التي عينوا فيها فليراجع فضلا [الشيخ عبد العزيز سي، أوضح المسالك في حياة ومناقب الشيخ الحاج مالك]. ومن المستحيل أن يتكلم عالم في انجازات الشيخ الحاج مالك بدون أن يراجع ملفات هؤلاء الشيوخ الاجلاء الذين أحاطوا به وساعدوه في تحقيق مشروعه الاجتماعي والدعوي. ولتقييم أعمال أتباعه السفراء أنشأ الشيخ الحاج مالك قرية “جكْسَاوْ” [Diak Saw] لملاقاة السفراء كل سنة، وكانت “جاكساو” الجامعة الفلاحية والثقافية كما يسميها الدكتور عثمان جاه حفظه الله ورعاه.

فبعد مائة سنة من رحيل الشيخ الحاج مالك، حيثُ يحتفل الأتباع بأمجاده ومقاوماته النبيلة فجل هذه المدارس التي كانت تابعة للزواية التجانية لم نجد لها أثرا يذكر، فعلى الأتباع أن يشمروا باحياء المدارس المالكية بالعلم والعلم، بالتوعية والتثقيفِ، بدون الوقوف على الأطلال والبكاء برحيله فقط؛ بيد أن هناك مجهودات جبارة يقوم بها بعض أحفاده، وأحفادِ أتباعهِ الغيورين بميراث الشيخ الحاج مالك رضي الله عنه.

٣- فكرة إحياءِ ليلة المولد النبوِي الشريف: كانَ الناس يجتمعون في تواوون كل سنة وذلك قبل استقرار الشيخ الحاج مالك فيهَا، وكانت العادات والتقاليدُ السيئة تسودُ جو المدينة أيام حفلاتهم الرقصية والتيدوية؛ ولما جاء اليها “مَوْدُ” بنية الاستقرار بدأ يفكر في تغيير هذا النمط من الحياة الجاهلية، فقام بانشاء إحياء ليلة المولد النبوي الشريف، فكانت سنة ١٩٠٢م السنة التي تشهد ميلاد هذه الحفلة الاجتماعية والدينية، وكانَ الشيخ عالما ومصلحا واجتماعيا، لذا يعلم ويفهم المثل الشعبي الولوفي القائل: “Ñiy gàmmu ak ñiy raas deem bokkul” فخاطب الأتباع والأحبابَ قائلا:

ألا عظموا ليل الولادة حسبة

إذا لم يكن نحوَ الحرامِ عدولُ

وبغض النظر عن الأدعية وقراءة الأمداح النبوية وكذلك قراءة القرآن الكريم طيلة هذه الأيام، فقد كان الشيخ الحاج مالك يجتمع مع السفراء _ المقدمين _ للتقييم والتقويمِ، فيملأ تعليماته واستراتيجياته إليهم. ف “غَمْمُو” كانت ندوة وطنية يلتقى فيها الشيخ مع أتباعه وأحبابه الذين يساعدونه في نشر الثقافة الاسلامية والطريقة التجانية في جميع ربوع السنغال وبعض دول افريقيَا. يقول الفيلسوف أحمد التجاني سي المكتوم، الذي عرف فلسفة  “مَودُ” في انشاء المولد “غممُو”:

قل للسئول فبدعة مرضيّة

أكرم بها من بدعة لم تجْحَدِ

وتلخيصا لكلمات هاته الثلاثية الذهبية يمكن القول بأنه على الداعي أن يعرف سيكلوجية المدعوينَ، اذا أراد نجاحَ مشروعهِ، وأشار الشيخ محمد مصطفى المكتوم في بعض محاضراته على وجوب معرف طبيعة الدعوة لكل داع ومرشدٍ. فرحمة الله على الشيخ الحاج مالك سي الذي لعب دورا لا بأس بهِ في ترسيخ الإسلامِ ونشرهِ في منطقة افريقيا الغربية.

زبدة القول:

وفي هذا اليوم العظيم الذي يعد المائة سنة بعدَ رحيل السيد القمقام، والعليم الفهامة، والنحريرُ الهمام، من أحيا السنة النبوية الشريفة في ديارِ السنغال، الشيخ الحاج مالك سي رضي الله عنهُ آتي وأذكر الإخوة بكلماتهِ الجليلة التي لخصها البيت الشعري الجميل الذي جاء في قصيدته التي مطلعها:

ألا يا رسول الله كلي وجملتي

فإنني في هذا الزمان غريبُ

وبيت القصيد هو قولُه رحمة الله عليه:

ألا يا بني هذا الزمان دعوتكم

لإحياء دين بالعلومِ أجيبُوا

فشيخنا الحاج مالك لم يكن يحتفل بالكراماتِ وخزعبلاتِ بعض الأتباعِ الكسَالَى بل كانَ يستعمل عقله ويمجد العلمَ والعملَ على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. فمن كانَ يرى اظهار الكراماتِ في منهجهِ “حيضا للرجَالِ” فكيف يأتي اليوم جاهل بسيرته ومشواره التعليمي، يقرأ قصيدة أو قصيدتينِ من كتاباته ثمَّ يجوب الحفلاتِ والشاشاتِ لأجل جيبِه فقط قلتُ جيبهِ فقط وأن يدخل في عقول الأتباع الأميينَ قصصا لا رأس لها ولا ذيل في أبجدياتِ المنطق. فالرجوع الى التربية بالهمة والحال (الرجوع الى الكتاب والسنة كما في فحام المنكر الجانِي الذي ألفه الشيخ الحاج مالك) وعدم الغوص في الخزعبلات التي ينسجهَا قصاص الجيبِ ثم يحاولونَ تسريبها في دعوة “مَودُ” الاصلاحية والتجديدية. يقول الشيخ أحمد التجاني سي المكتوم:

أرى مالكا في سلطة من جلاله

ومن عجزه حتى استقر بحاله

ولكنه يستعمل العقل دونها

وهل عرف الأقوام ما في جماله.

ومن هنَا أيها الاخوة الأجلاء، يعجز القلم عن زيادة كلمات لتخليد بطولات ومقاومات هذه الشخصية العظيمة، والعبقري الفريد من نوعهِ، من كرَّس جميع ساعات عمرهِ لأجل الدينِ والوطنِ، فجاهدَ الفكر بالفكر مع الاستعمارِ حتَّى شهدَ له الأمراء والعظماء والعلماء منزلته الفذة بينَ العباقرة، فجزاهُ الله عن الأمة الإسلامية خير ما يجزِي الشهداء والصالحينَ.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici