كتب / د.محمد سعيد باه
بمراقبة الساحة الإفريقية عموما، وغرب إفريقيا على وجه الخصوص، نلحظ بأن تحولات بنيوية تجري وتتسارع خطواتها وذلك يتجاوب مع التحولات العميقة التي تعصف بالعالم وتنذر بميلاد عالم جديد يختلف عن عالم ما بعد الحرب الأوروبية، التى توصف بالعالمية تزويرا للحقائق.
من أهم ما يلفت النظر في هذا التحول المتلاحق لانحسار الوجود الفرنسي فى عموم إفريقيا، من النواحي السياسية والاقتصادية والعسكرية، أنه تركز مؤخرا في البعد العسكري وذلك منذ شهر نوفمبر الماضي في كل من تشاد والسنغال علما بأنهما تأتيان في مقدمة الدول الحليفة لفرنسا في المنطقة، حين قرّرتا إنهاء الوجود العسكري فيهما.
لكن الضربة التي قد تكون أشد إيلاما لفرنسا، قد جاءت من دولة كانت تصنف علي أنها ستكون آخر مسمار فرنسي في المنطقة، على المستوى الساسي على الأقل، ألا وهي ساحل العاج الذي أعلن رئيسها الحسن وَتَرَ، في خطابه إلي الشعب، بمناسبة رأس السنة الميلادية، بأنه سيتم سحب القوات الفرنسية من بلاده كاملة بحر عام ٢٠٢٥م ابتداء من شهر يناير الجارى.
فى الواقع، لقد عانت فرنسا، قبل هذه الخطوة المؤلمة لها، من انتكاسات مماثلة في عدة دول فى غرب إفريقيا، خلال السنوات الأخيرة، بما في ذلك تشاد والنيجر وبوركينا فاسو، حيث تم طرد القوات الفرنسية التي كانت متمركزة هناك منذ سنوات طويلة.
تأتي هذه القرارات الصادمة للمراقب غير المطلع، في سياق توجه إقليمي متنام يهدف إلى إنهاء الوجود العسكري الفرنسي في غرب أفريقيا، فى المستقبل المنظور، وهو توجه تم تدشينه بوصول جيل جديد من القيادات العسكرية الشابة فى كل من مالي، بوركينا فاسو، والنيجر، حيث تعلو النبرة المعادية لفرنسا على مستوي القرار السياسي والشارع.
يلاحظ فى خطاب الرئيس السنغالي حديثه عن إغلاق جميع القواعد العسكرية الأجنبية في السنغال اعتبارًا من عام 2025م، وإحداث تحول جذري فى الشراكة العسكرية، وذلك بقوله:
“لقد وجهت وزير القوات المسلحة لاقتراح عقيدة جديدة للتعاون في مجال الدفاع والأمن، تتضمن، من بين أمور أخرى، إنهاء كل أشكال الوجود العسكري للدول الأجنبية في السنغال، اعتبارًا من عام 2025م”
يأتي هذا الخطاب لوضع النقاط على الحروف، بعد التمهيد الذي ورد في مقابلة صحفية له فى 28 نوفمبر، حين أعلن: “السنغال دولة مستقلة وذات سيادة، والسيادة لا تتوافق مع وجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها”.
كان من الواضح أنه كان يقصد فرنسا مع نقد ضمني لاذع لها، الأمر الذي يتناغم مع توجهات النظام السياسي السنغالي الجديد، حين كانت المصالح الفرنسية فى السنغال أهدافا محورية أثناء الاحتجاجات العنيفة التي عرفتها السنغال خلال العامين الماضيين:
“جميع أصدقاء السنغال سيُعاملون كشركاء استراتيجيين، في إطار تعاون مفتوح، متنوع، وخالٍ من التعقيدات”.
يتضح هذا البعد، إذا قارنا ذلك بما ورد في الكلمة التي وجهها الرئيس العاجي الحسن وَتَرَ إلى شعبه، بمناسبة نهاية العام الميلادي، الذي حاول أن يضع سياقا وديا لهذا القرار، حين قال بأن على شعبه أن يفتخروا بتحديث قدرات قواتهم المسلحة وأن هذا الانسحاب لن يكون ضمن ما يحدث فى البلدان الأخرى:
“لقد قررنا الانسحاب المتفق عليه والمنظم للقوات الفرنسية من كوت ديفوار”.
عند إمعان النظر، نلحظ اختلافا واضحا، رغم التقارب فى نوعية الخطوة وفى البعد الزمني، فيما يتعلق بالدوافع، فإذا كانت حالة كل من السنغال وتشاد والبلدان التي سبقت، تندرج فى توجه جديد نحو التخلص من النير الفرنسي، ضمن رؤية تقوم على ما يصطلح عليه فى هذه البلدان بتوجه استعادة السيادة، والتي ينتهجها تيار اليساريين الأفارقة والشعبويين الجدد فى المنطقة، فإن الرئيس الحسن وَتَرَ قد يجنح إلى محاولة تهدئة الشارع وخاصة أن ثمة تكهنات تروج بأنه ينوى الترشح فى الرئاسيات التى ستجرى هذا العام، والتي لم يتحدد تاريخ إجرائها بعد.
أما تشاد، فقد اتخذت خطوة أكثر حدة بقدر ما هي مفاجئة، وتقارب فى شكلها ما لجأت إليه مجموعة دول الساحل، وذلك بإنهاء اتفاقية التعاون الدفاعي مع فرنسا في نوفمبر المنصرم.
أما الضربة القاصمة التي تخشى فرنسا أن تنهال عليها بين لحظة وأخرى، فتتمثل فى إمكانية القرار المتوقع من الدول الإفريقية، التي تتعامل بالفرنك الإفريقي (FCFA) عملة موحدة، بسحب ودائعها من الخزينة الفرنسية، وهي خطوة ستتدحرج فرنسا بتأثيراتها من موقعها الحالى (7)، فى سلم الدول المتقدمة إلى درجة (27) حسب بعض التقديرات.
مع أهمية البعد الاقتصادي، وما يمكن أن يجره من تأثيرات عميقة فى وضع فرنسا عموما، فإن ما يخشاه الفرنسيون أكثر هو تطامن الوجود الثقافي فى المنطقة، المتمثل باللغة الفرنسية، وما تحمله من معاني التأثير والهيمنة على الطليعة الفكرية والسياسية الإفريقية، وهذا التراجع يزداد يوما بعد يوم، حيث نلاحظ أن التوجه العام فى القارة هو التخلص مما يسميه الجزائريون بـ: “غنيمة حرب”، وإن تباينت الطرائق المتبعة لتحقيق ذلك، فى الوقت الذي تختار فيه عدة دول الطلاق العنيف، يلجأ بعض هذه الدول، مثل السنغال والمغرب، الجنوح نحو الخيار المتدرج القائم على إيجاد البدائل، كما نرى ذلك من خلال زحف اللغة ، على مواقع كانت الفرنسية تحتلها طيلة قرون، إلى جانب تعافى العربية واستعادة زمام المبادرة.