مقال / الشيخ أحمد بامبا والزنوجة

0
271

البرفيسور غالاي انجاي

القول بأن المريدية لا تمت بصلة إلى نظرية الزنجية أو الزنوجة كما اصطلح عليها أصحابها سنغور وسيزير وداماس، هو قول باطل ينم عن جهل كامل بالنظرية والقائلين بها ، والسياق الذي برزت فيها، أو على الأقل نقول إن قولهم غير دقيق بالمرة وغير علمي، ذلك لأن في فكر الشيخ أحمد بمبا المسطر في كتاباته نجد فيه عناصر لها صلة متينة بنظرية الزنوجة، لا لأن دعوته دعوة زنجية بحيث تنحصر مجالها في هذا الإطار الضيق، وشتان ما بين كون المريدية دعوة زنجية وكونها لها صلة بها، تأمل ، فنظرية الزنوجة ليست إلا دعوة عامة لرد الاعتبار إلى الإنسان الأسود حتى يحل محله بالمعنى الأنطولوجي (الوجودي) الفلسفي. ويتأكد ما ذهبنا إليه حين نتأمل الزنوجة الأنكلوفونية التي هي حركة مماثلة كانت قد نشأت على غرار الزنوجة الفرنكوفونية، مؤداها الدعوة إلى إيجاد نهضة زنجية حقيقية. وكان الآباء المؤسسون لهذه الحركة التي تعد أكثر واقعية من سابقتها، زنوجا أنكلوفونيين، بعبارة أبلج ، زنوجا أمريكيين أو أفرو-أمريكيين. وفيما يلي البحث المتواضع الذي كتبته حين كنت طالبا بجامعة الأزهر القاهرة/ يوم الثلاثاء 15/02/2000م. تحت عنوان :


الشيخ أحمد بمبا والزنوجة
إذا كان تحديد مفهوم “الزنوجة” (La Négritude) يتمحور بشكل عام حول : «رؤية أفريقية زنجية متكاملة نحو الوجود أو العالم وبكيفية معينة وواقعية للعيش فيه»، وإذا كان العنصر الإنساني أهم ركائز الوجود والعالم بالضرورة، فليس مما يستدعي العجب إن ألفينا اهتمام الشيخ أحمد بَـمْبَا ينصب على كاهل هذا العنصر “الإنسان”، محاولا من خلال رؤية أصيلة وفريدة من نوعها ردّ الاعتبار – الذي كان مفقودا – إلى الإنسان الزنجي ، لكي يأخذ مكانه من هذا العالم الإنساني بالاعتراف والكينونة.
فهذه الرؤية الفكرية الوجودية لم يتأخر انبعاثها عن وقتها آنذاك، ولم يعدل كذلك عن المعنيين بها، وهم الزنوج عامة، ذلك لأنّ العالم الأفريقي الزنجي في ذلك المنعطف التاريخي الحرج كان قد فَلَتَ من صفائد الاستعباد الغاشم المتمثل في تجارة الرقيق “الـمثلث التجاري” (Triangle commercial Le) في أسواق النَّخَّاسِينِ في أوروبا وأمريكا في العقد الأخير من القرن الخامس عشر إلى عام 1870م، التي أسفرت عن إزهاق أرواح أفريقية تعد بالآلاف، ولم تزل شعلة الاستعمار تضطرم بلهبها الممتد ما بين (1880-1960م). فإن صدور هذه الدعوة الهادفة في ذلك الحين (1885-1927م) كان له بدون شك مغزى فكريا وواقعيا في داخل كيان الزنجي. يقول الشيخ أحمد بمبا في مقدمة منظومته الصوفية مسالك الجنان موضحا أنه ليس بالضرورة أن يكون أصحاب البشرة السوداء سفهاء أو مُصابين بالتدهور الفكري، بل ذلك محض وهمٍ مختلق سوَّله لهم الإنسان الأبيض:
فَـلَيْسَ يُوجِبُ سَوادُ الجِــسْمِ
سَـفَاهَةَ الفَـتَى وَسُـوءَ الفَـهْـمِ
وإذا كان فلاسفة “الزنوجة”، وهم سيزير (Cesaire) وداماس (Damas) وثالثة أثافيهم سنغور (Senghor) وغيرهم من الذين نادوا بهذه الحركة (فيما بين (1931-1935م)، عندما كانوا طلبة في فرنسا) قد اكتفوا بكتابة مقالاتهم – التي انهالت بوفرة آنذاك – حيث اكتنفها طابع الجدية والحماس، كما تم حبكها ونسجها بِـبُعدٍ فكري زنجي أصيل في مجلة “L’ETUDIANT NOIR” (الطالب الأسود).
وغير خاف أن حركة مماثلة كانت قد نشأت على غرار هذا النداء، مؤداها الدعوة إلى إيجاد نهضة زنجية حقيقية. وكان الآباء المؤسسون لهذه الحركة التي تعد أكثر واقعية من سابقتها، زنوجا أنكلوفونيين، بعبارة أبلج زنوجا أمريكيين أو أفرو-أمريكيين.
يقول شاعر الزنوجة المفلق، سنغور مؤرخا لهذه الدعوة: «ففي 1903م كان الداعي الأول إلى الحركة السيد “دِي بُوا” (W.E.B Du Bois) أعلن: “أنني زنجي وافتخر بهذا الاسم وأعتز بالدم الأسود السائل في عروقي”. وفي عام 1926م حينما كنا في “ليسي” (Lycée) أنا و”سيزير” (Césaire) كتب “لانغستون هيغ” (Langston Hugues) في مجلة الأمة بتاريخ 23 يونيو 1926م: «نحن الخالقين للجيل الزنجي الجديد نريد أن نعبر عن شخصيتنا السوداء بدون خجل أو خوف، فإذا كان ذلك يروق البيض فنحن سعداء جدا وإن لم يرقهم فلا يُهمنا ذلك. نحن نعلم أننا جميلون ودميمون أيضا (…) الغد نبني معابدنا، معابد متينة كما عرفنا بناء أمثالها، وسننهض قائمين على قمة الجبل، أحرارا فيما بيننا نحن».
ولا يفوتنا – هنا – الإقرار بأصالة الولي البَوَلِي الشيخ أحمد بمبا البَكِّي وأسبقيته إلى نظرية “الزُّنُوجة” «La Négritude»، وإن كان سِيزِيرْ ودَامَاسْ (Damas) وسِنْغُورْ (Senghor) هم الذين حظوا ببلورتها كأيدلوجيا بكلّ أبعادها الفكريّة والمفهومية، حيث مهّدوا لها الطريق لترى النور والتصقت النظرية بأسمائهم، وخصَّصوا لها رواياتٍ وأشعارٍ في قالبٍ زنجيٍّ أصيلٍ وهزَّازٍ، ومقالات جذبت أنظار المثقفين في ذلك الوقت. أما الشيخ أحمد بمبا فقد لجأ هو إلى أسلوبه الخاص – كما هو دأبه، وذلك معروف لدى كل من ينقب بالبحث في مكتوباته – حيث لم يقم بتنظيرها كمفهوم محدد، ولم يخصص لها مؤلفا خاصا كما فعل هؤلاء، بل قد درّجها ضمن مكتوباته إدراجا.
والقمين بالإشارة هنا أن الزنجي لم يكن يحظى بمكانته العلمية وسط مجتمعه السُود مهما بلغ ذروة في العلم والمعرفة، وذلك لنـزوح البيضان من الموريتانيين والمغاربة تحت اسم “الشرفاء” حاملين الدين الإسلامي على أكتافهم لنشره بين الزنوج عن طريق التجارة والسياحة ، وإن لم يكن – تفاديا للتعميم المخل – كلهم مرتزقين، فكان جل الزنوج لا يعير أي اهتمام لأيِّ عَالِمٍ من بني جلدتهم ولا لمؤلفاته بجانب هؤلاء البيضان الوافدين، فأراد الشيخ أحمد بمبا أن يرد له اعتباره ومكانته عندما ألف منظومته الصوفية الرائعة “مسالك الجنان”، حيث ألمح في مقدمتها بقوله:
وَلاَ يَصُـدُّكَ مَدَى الأزْمَــانِ
عَنْ أَخْذِهِ كوني مِنَ السُّودَانِ
أي أيها الزنجي وغيرك لا تحقرن كتابي هذا لكون مؤلفه من السود فتخسر مع الخاسرين.
​وهذا الاعتقاد والتصرف اللاعقلانيين من زنوج تلك الحقبة التاريخية العصيبة أمر جِدُّ طَبيعي، لما عُرِفَ أن عقلية المغلوب على أمره كثيرا ما يفتـتن بعقلية الغالب الفاتن، وهم ذوو البشرة البيضاء.
وليس هناك ما يدعو إلى الشك في أن تجارة الرقيق التي وضعت أوزارها والواقع المرّ المُعاش في ظل نير الاستعمار قد خلّفا آثارا عميقة الجذور في قرارة نفسية الزنجي، فكان طبيعيا ومنطقيا أن يشعر الزنجي من داخليته بالضعف والدونية من زاويتين، الدينية والزمنية أمام “الغول الأبيض”.
في وسط تلك الأجواء العويصة، التي كان الزنجي يشعر فيها بتمزق كياني ويحس بالضياع وفقدان التوازن، فقد وجدنا هذا الأخير كان قد ضل به تفكيره إلى حد الاعتقاد أن أي تأثير يحصل في الكون هو من محض صنيع هذا “الغول الأبيض”، فأراد الشيخ أحمد بمبا أن يستأصل هذا الإحساس القاتل من جذوره، مُنبِّهًا إياهم بأن يفيقوا من سُباتهم العميق ، ويتفطنوا لما يجري على الساحة بقوله في منظومته ” إِلْـهَامُ السَّلامِ في الذَّبِّ عَنْ دِينِ الإسْلامِ “
وَمِنْهُمْ مَـنْ يَـحْسِبُ الـتَّـأْثِــيـرَا
لَـهُمْ وَيـنْسَى الخَالِقَ القَـدِيـــرَا
وَمِـنْـهُمْ مَنْ إِنْ رَآى نَصْرَانِي
يَـحْسِبْهُ مِن مَّلاَئِـكِ الرَّحْمَـــانِ
وَمِـنْهُمْ مَنْ ظَنَّ كَــوْنَ الأَمْـــرِ
كَالنَّفْعِ وَالضُّرِّ لَـهُمْ فِي الدَّهْـرِ
قُلْتُ مُـنَـبِّهًا لَـهُمْ يـَا قومــــــي
انْـتَـبِهُوا مِنْ سَكَرَاتِ الـــنَّـومِ
لاَ تَـجْعَلُوا مُنْـتَـفِخًا قَــدْ وَرِمَا
مُسْـتَسْـمِنًا فَذَاكَ جَهْلٌ عُــلِمَـا
وَلاَ تَـظُّنُّوا أَنَّـهُـــمْ قَــدْ فَـازُوا
بِكُـلِّ خَــارِقٍ وخَــيْـــرًا حَــازُوا
وقال أيضا في المنظومة نفسها:
وَمِـنْهُــم مَــنْ غَـرَّهُ النَّـصَارَى
بِوَصْفِـهِمْ حَتَّى الفُـؤَادُ حَــارَا
وَيَنْسُبُ الصُّـنْـــعَ الَّذِي أَجْـرَاهُ
فِيهِمْ إِلَـهُ الخَـلْـــقِ إِذْ دَهَــــاهُ
لَـهُمْ وَيَــعْـتَــقِـــــدُ أَنَّ الْحَـــوْلاَ
وَقُـوَةَ الفِـعْلِ لَـهُـــمْ وَالطَّوْلاَ
وقال منبهًا أيضا إن هؤلاء الطغاة المستعمرين لم يأتوا إلى بلادنا بدافع الاستعمار والتحضير كما ادعوا، وإنما وفدوا إلينا لأنهم صعاليك سوّل لهم إبليس نهب ثرواتنا والطغيان علينا، وهذا – كما هو جلي – على طرفي نقيض من مفهوم الاستعمار الذي يعني في حد ذاته العمارة وإصلاح الأرض بحيث ترجع غلاتها إلى أصحاب الأرض، بل هم قد عكسوا القاعدة رأسا على عقب بتلبيس وإخفاء أغراضهم وراء شعار التحضير والتثقيف والاستعمار. كما وضح أنهم لم يكتب لهم السيادة علينا من قِبَل السماء ولا الكرامة، ولا أنهم ملوك أرسلوا من قبل الله لكي يتحكموا فينا ويترفعوا علينا، وإنما ذلك حادث عرضي يزول قطعا بزوال أسبابه. كما أخذ أيضا ينبههم بأن كل ما في حوزتهم من آلات حديثة الصنع وأسلحة فتّاكة هو مجرد استدراج من رب العالمين لهم لا غير، والذي هيَّجهم إلى التسابق إلينا ليس إلا دافع الحرص والطمع والجشع، بالإضافة إلى الحيرة في مستقبلهم القريب، ذلك لما يجري في حسبانهم من فناء مواردهم الطبيعية الأساسية. كما بيّن أيضا من صعيد آخر، أن هذا الاعتقاد من العامة، في الأبيات السالفة الذكر، هو اعتقاد من لا رصيد لهم من العلم، وهم الجهلاء والسفهاء من الناس، والمتبعون لهواهم. وليس من شك أن هذا الاعتقاد مدعاة لهم إلى الخسران والتهلكة والتبعية الثقافية والشعور بالدونية، فقال في المنظومة نفسها:
وَجَـرَّهُــمْ إِبْـلِيسُ لِلْعِـصْــيَــانِ
ولِلـتَّــجَـــرُّإِ وَ لِلْـخُــــسْــرَانِ
وَغَرَّهُـمْ بِكَـيْـدِهِ حَـتَّى طَـغَــــوا
فيِ كُلِّ بُـلْدَانِ جَمِيعًا وَبَـغَــوْا
وَظَـنَّهُمْ أَهْلُ الهَوَى وَالجَهْـلِ
لِشَأْنِـهِمْ أَهْلَ العُلَى وَالفَضْلِ
وَظَـنَّـهُـمْ كُـلُّ سَـفِــيـهٍ غُــمْـــرِ
سَادَاتِ أَهْلِ ذِي الجَلاَلِ الغُـرِّ
وَظَنَّ مَنْ لَمْ يَعْـقِلُوا وَاغْـتَـرُّوا
أَنَّـهُــــمُ هُــمُ الكِــــرَامُ الـغُـــرُّ
وقال في موضع آخر من القصيدة نفسها:
لاَ تَحْسِبُوا الـمَجُوسَ والنَّصَارَى
سِوَى أُسَارَى الحِرْصِ وَ الحُيَارَى
لأنَّ مَــا عِــنْــدَهُــمُ اسْــتِــدْرَاجُ
مِــنْ حَـيْـثُ لاَ يَـــــدْرُوهُ لاَ إِدْرَاجُ
وَلاَ تَـــظُـــنُّـــوا أَنَّـهُم مُـــلُــوكُ
بَــل إِنَّـما كـــُلُّـهُم صُــعْــــلُــــــــوكُ
وحثّ كذلك الزنجي بأن يعتاد الاعتماد على الذات والاستغناء عن الآخرين (المستعمرين وغيرهم) إلا للضرورة الملجئية القصوى، وأفهمهم أنّ النفع والضر بيد مُدبر الأمور مالك الملك، وما على الإنسان إلا الاكتساب والتوكل، لا التواكل، فقال مشيرا إلى هذا المعنى- ومؤكدا أنه لا يـمد يده أبدا إلى النصارى (أي المستعمرين) لأنهم عبدة المادة (الماء والطين) – في قصيدته “رُمْنَا شَكُور” التي نظمها عندما كان في غيبته البحرية “الغابون” (Gabon) ما بين (1895-1902م):
كَتَبْتُ فِي البَحْرِ أَنِّى لاَ أَمُدُّ يَدِى
إلى النَّصارى عَـبِيدِ الماءِ والطِّينِ
والشيخ أحمد بـمبا لا يعد هذا التقدم التكنولوجي الرَّهيب- المتمثل في إنتاج أحدث الأسلحة الفتّاكة – تقدما في المجال الإنساني، بل يعده من شراسة ووحشية ضمير بنى آدم، لأن الشخص الذي يهديه تفكيره إلى إبداع ما من شأنه أن يفني البشرية جمعاء ويُبيدهم في لحظة واحدة، فهو بدون شك تفكير وحشي همجي، لا يمت بصلة إلى الإنسانية في شيء، فقال في منظومته:” إلهام السلام في الذب عن دين الإسلام”
وَبَـعْـدُ فَالـمَجُوسُ وَالنّــَصَارَى
صَارُوا لإبْلِـيسَ الغَـوِى أُسَارَى
حَـتَّى غَـدَوْا كَأَنَّـهُمْ سُــــــكَـارَى
وَرَأْيُـهُمْ فِي حَـتْـفِــهِــمْ قَـــــد دَّارَا
وهذا المنطق منه سليم، لأن بعض الذين أبدعوا في خلق وإيجاد أسلحة الدمار الشامل مثل ألفريد نوبل (Alfred Nobel) السويدي مُكتشِف الديناميك وكلاشنيكوف (Kalashnikov) الروسي قد ندموا جميعا فيما توصَّلوا إليه من هذه الأسلحة الفتاكة، والتاريخ خير شاهد على ذلك، وقد أكد (لانغستون هيغ) ذلك بقوله «أخاف من هذه الحضارة البالغة هذا الحد من القساوة والقوة والبرودة». والذي نشاهده الآن في واقعنا المعاصر من محاكمة بعض الشخصيات من جراء تهمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد حقوق الإنسان ناتج عن هذه الإبداعات البشرية التي يُعانى أكثر أصحابها من الشذوذ العقلي والانحراف الفطري.
​وكما أن أيدلوجية “الزنوجة” الفرنكفوني (سنغور وشركاءه) قد قوبلت باعتراضات وانتقادات عنيفة موجهة من قِبَل بعض المثقفين الناطقين بالإنجليزية (الأنكلوفونيين)، وذلك لأن الفئة الأولى (الفرنكوفونية) قد حاولت أن تجعل من “الزنوجة” موضوعا لمشاعرهم وإبداعاتهم الأدبية، حيث كانوا يتغنون بها في أسلوب شعري ورِوَائي جيَّاش وبرّاق بعيدًا كل البعد عن الواقعية والعملية.
​أما الفئة الثانية – وهم بعض (الأنكلوفونيين)- فقد نقدت هذا المنهج من سابقتها، وأشهر الممثلين لهذه الفئة “ساموئيل وليام ألين” (Samuel William Allen) و”إيزيشيل” و”مفاليل” و”وُولِي سُويِنكا” (Wolé Soyinka)، وقد لخص هذا الأخير ما استندوا إليه بقوله: «إن النمر لا يتبختر هنا وهناك صارخا بنمريته». فمكمن الأمر عندهم ليس مجرد هُتافات يُوتُوبية أو سريالية بعيدة عن الواقع، ولكن اتخاذ مواقف وإجراءات عملية وواقعية.
​أما الشيخ أحمد بـمبا فهو أقرب إلى الفئة الثانية من الأولى، لأنه كان ينحو منحًى براجماتيا صرفًا في دعوته، حيث كان يقاوم الاستعمار بأسلوبه اللاعنف السِّياسي. وقد ناصبته السلطات الاستعمارية الحاقدة العداء من أجل هذه الإستراتيجية التي كانت تقض مضجعها، فقامت بنفيه إلى “الغابون” (Gabon) ما بــين (1895-1902م) وإلى موريتانيا (Mauritanie) ما بين (1903-1907م) كما فرضت عليه الإقامة الجبرية داخل وطنه في تِـيِـيـنْ (Thiéènne) وفي جُـرْبَـلْ (Diourbel).
هذا أيها القارئ الكريم إذا تأملت يسيرا فيما سُطر أمامك دون تكريس أدنى جهد يذكر، تجد أن شخصية الشيخ أحمد بـمبا شخصية مزدوجة: فهو رجل دين وصوفي بلغ الذروة من الكمال الروحي من جهة، ومفكر حصيف القريحة وصاحب فكرة ناقدة وإصلاحية من جهة أخرى. فلا غرو إذا ألفيناه لا يدخر جهدا في خدمة الدين الإسلامي والذب عنه، ولا يألو في بلورة أفكاره لإخراج الأسود من عرصته الضيقة إلى فضاء فسيح طافح بالحرية والعقلانية، ومن دناءة حالته التي كان يندى لها الجبين إلى عزة الإسلام الذي يضمن لمن اعتنقه الكرامة الإنسانية والحفاوة والسعادة الأبدية.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici