قصة كَعْكة في جُبَّة قَهْقهة

0
650

الجزء الأول:

بقلم / شيخ ماجور فال

تحت ظلال شجرة المانجو وعند الظهيرة حين يشتد الحر ويجفُّ البَر جلس منصور غي بين أترابه وأصحابه ليس ليُحدِّثهم عن “جبال الهِيمالايا” الواقعة في أقصى قارة آسيا، ولا عن “حدائق بابل المعلقة” التي تُعد من عجائب الدنيا السبع فضلا عن منارة الإسكندرية ومدينة “ماتْشُو بِيتْشُو القديمة” ومغارة جَعيتا المائية، ولا ليحكي لهم عن قصة “روميو و جولييت” ولا “بول و فرجيني” ولا عن “قصة سندريلا” الحزينة المُبكية…وإنَّما جلس مسترخيا ليخبرهم عن العجائب والغرائب التي شاهدها في العاصمة السنغالية “دكار” خلال رحلته الأولى فيها، كأنه ابن بطوطة يتحدث عن عادات الهندوس وتقاليد المجوس في رحلاته الاستكشافية.
كان مساء يوم الجمعة عندما نزلتُ في محطةٍ مدجَّجة ٍ بالبضائع ومكتظة بالناس ليس لها في النِّظام إلا حرف النون وهي “كولوبان/Colobane” فبينما أنا واقف على الرصيف متعجبا بالجَمع الغفير قال لي رجل بصوت مرتفع “تحرّك يا أبله واحرص على بضائعك فهنا كُولوبان، موطنُ السارقين والمارقين” فتنحيتُ جانبا وسألت عن الطريق المؤدي إلى “يَمْبَل” فأجابني شاب غريب الأطوار يلبس بنطلونا مُمزقا وعنقه محاط بالسلاسل، وكانت إجابته أغرب قال لي: جمهورية يَمبل الإسلامية..!خذ حافلة رقم 27. تساءلت في نفسي هل توجد في السنغال جمهورية أخرى مستقلة أو منفصلة ؟ وما هي الحافلة ؟
وما هي إلا سُويعات حتى اكتشفت أنها هي هذا الصندوق المستطيل والسيارة الكبيرة فدخلت فيها وجلست…وما انتهى منصور كلامه حتى قاطعه زميله مصطفى انغوم سائلا ومُلِّحا في سؤاله: وما هي جمهورية يمبل الإسلامية؟ فتبسم منصور وقال جمهورية يمبل! إنها مصطلح من بين آلاف المصطلحات التي يتداولها الشباب في العاصمة وغالبا لا تحمل معنى بالضبط، وإنمَّا هي تمْتمَات وهمْهمات وغَمغمات منها: “لا يفعلها جبان، إنَّها خطورة”(Risque leu ragal dokou deff) و “فلك والا”(Galou Wala) و “خالي امبي، يمكنك البقاء في المنزل وسيأتي سيداتي” وغيرها الكثير التي يتغنى بها جيل تيك توك ليل نهار.
وأردف منصور قائلا: دعوني أحكي لكم ما شاهدت بأم عيني حينما ذهبت إلى ناد ليلي في مكان يُدعى “سورانا”(Sorano) وكان فوق المنصَّة المغني الطفل الذي بلغت شهرته الآفاق وهو في مهده يمصُّ الإصبع و يتخاصم ويتقاسم الكعكة مع الصبيان “في زي /VJ” الذي سجدت بحمده الفتياتُ فتراهن يسقطن شغفا به كأنّهن مصابات بمرض هيستيريا، وتتمايلن يمنةً ويسرةً مع ترديد كلمة “في زي” فيا للأعجوبة!!!
ثم ذكر لهم المغني “كيبا سيك” (Kéba Seck) فهو نقيض الأول ومغاير له، فقد عاش حتى بلغ من العمر عُتيا فأصبح حديث القاصي والداني فيصرخ ويُوَلْوِل الجماهير لأجله و يأتونه من كل حدب وصوب وقد حفظتُ مقولته الشهيرة في إحدى أغنيته حيث يقول:
“كيبا لا يلهو…ame Kéba dou Caaxaan” …فهو يشبه بالفيلسوف الألماني شوبنهاور” الذي عاش حتى قرُب أجله فبلغت شهرته الآفاق وأصبح حديث الصحف والجرائد اليومية..
ثم ادَّكر منصور يومه في “البُحيرة الوردية/Lac Rose” فتلا ضاحكا قول امرؤ القيس:
ألا رُبُّ يوم لك منهن صالح***ولاسيما يوم بدارة جُلجل
وما بدأ حديثه عمَّا شاهده في الشاطئ من فتيات شبه عاريات حتى قاطعه *مصطفى انغوم* مُجددا ومتعجبا: تتحدث عن شاطئ “بايا دو سانشو” في البرازيل أم شواطئ السِّنغال!؟
فتجاهله منصور قائلا: لا أكون منصفا إذا اكتفيت بذِكر هذا الجانب المظلم فقط… فكما للعاصمة سلبياتها فلها إيجابياتها أيضا من بينها الصرح العلمي الكبير، كعبة العلماء والأدباء والباحثين والأكاديميين “جامعة شيخ أنت جوب”(UCAD) التي سُميت بالفيزيائي السنغالي الكبير والمؤرخ وعالم الأنثروبولوجيا والمصريات شيخ أنت جوب ، وتم تأسيسها في 24 فبراير 1957 وقد سُميت وقتئذ بـِ”جامعة دكار”
وكانت قبل ذلك في 1918 كلية للطب قبل أن تتحول إلى معهد الدراسات العليا في 1950م.
وتضم ست كليات منها لغوية وعلمية وعشرات المعاهد ومراكز بحثية متخصصة في العلوم التقنية والآداب واللغات والحضارات الأفريقية.

وكذلك “متحف الحضارات السوداء” الذي افتتح في ديسمبر 2018 ويُعد معلم هام حيث يحتضن آثارا تُسلط الضوء على مساهمات حضارة إفريقيا من الناحية العلمية والتكنولوجية في حياة الإنسان، ابتداء من العصر الحجري الحديث وصولا إلى العصر الحديدي.
كما يعرض آثارا عن الاكتشافات والأعمال في مجالات الطب والرياضيات والتاريخ والأدب للحضارة الإفريقية.
وتم تصميم الشكل المعماري للمتحف على شكل دائرة مستوحاة من شكل الكوخ السنغالي،
وتبلغ مساحته 14 ألف متر مربع بحيث يمكنه عرض 18 ألف قطعة أثرية من أحافير الكائنات البشرية الأولى التي عاشت في أفريقيا منذ ملايين السنين، وصولاً إلى الإبداعات الفنية المعاصرة.
وقد أطلق فكرة المتحف الأديب والرئيس ليوبولد سنغور خلال المهرجان العالمي للفنون السوداء الذي أقيم في دكار عام 1966م، ووضع الحجر الأساسي الرئيس عبد الله واد ثم شيَّده الرئيس صال.

وقد صليت جُمعة في جامع “مسالك الجنان” تلك التحفة الفنية الفريدة من نوعها في أفريقيا الغربية كلّها،
يتمركز في قلب العاصمة دكار وبلغت تكلفة بنائه قرابة عشرين مليار فرنك واستغرق بناؤه سبع سنوات، ويتسع لثلاثين آلاف مصلِّ ، فأنشد مصطفى دعاء شيخ أحمد بمبا قائلا:
*واجعل بيوتي كلها مساجدا *** يا نافيا من لا يكون ساجـدا*
ثم تابع منصور قائلا: فهو رمز المقاومة والمناضلة ضد الاستعمار والتنصير وفوز حزب الله على حزب الشيطان، ثم اختتم كلامه بقوله تعالى: “أولـٰــئك حزب الله ألا إنّ حزب الله هم المفلحون”.
فأدركهم غروب الشمس وحان أوان الرجوع إلى البيوت وقد وعدهم “مصطفى انغوم” بسرده لهم قصة زيارته الأولى إلى معقل المريدية مدينة طوبى صباح الغد..

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici