في_الحواشي : جدل في غير محلّه…

كتب / محمد بن سالم باه

ولعل من اللعنة المعرفية على بعض منا -نحن المستعربين السنغاليين- أننا لا نقرأ ما يقوله الآخرون، وإنما نقرأ ما ظننَّا بأنهم قائلوه أو سوف يقولونه، ثم لا ننتظر طويلاً حتى ننشلهم من غرف نومهم، وندخل بهم عنوةً في ميادين الحروب الكلامية الطاحنة. ولكن لأننا ندخل هذه الحروب بدافع من التشفّي العنيف، فإننا كثيراً ما نخرج منها منهكين نلهث، وقد طاش آخر أسهمنا عن الهدف. ومع ذلك لا نتورّع في الاحتفال بانتصاراتنا الوهميّة.

وأنا كواحد من الغاوين سأدلي بدلوي في موضوع تفسير البروفسور والفيلسوف السنغالي الشهير سليمان بشير جانج، استجابةً لتساؤلات بعض الإخوة الملحّة التي كثيراً ما تنجح في توريطي بالمسائل التي لا أراها جديرة بالاهتمام الكبير، إلا من زوايا هامشيّة ضيّقة أخرى تخصُّني وحدي.

وبادئ ذي بدء، أحب أن أنبِّه إلى بعض النقاط:

  1. إن الجزئية التي دندن الناس حولها وثاروا وماجوا ليست أكثر من مقتطف صغير من مقالة طويلة كتبها الكاتب السوري هاشم صالح، ونشرها في جريدة الشرق الأوسط يوم 29 كانون الثاني-يناير 2025. وهو مقال ذرَع فيه صاحبه الأرض شرقاً وغرباً في سبيل تثبيت فكرة خلاصتُها الإيحاءُ بضرورة تبنّي الفلسفة التنويرية ليس في التفسير وحده، بل في كل جوانب الحياة العلمية والفلسلفيّة أو الثقافية عموماً للمسلمين. إلا أن الناس تجاهلوا جميع الأفكار الرئيسية للمقال، وركّزوا في تفسير البروفسور لآية (اهدنا الصراط المستقيم…). وأنا بدوري في هذه التغريدة سأحاول، استجابةً للطلب، من خلال تفسير الآية الكريمة وحدها، تقييمَ مدى صحّة أو خطأ التفسير المنسوب إليه (أقول المنسوب إليه، لأنني لم أقرأ الكلام من صاحبه، وإنما قرأت عنه). وذلك بغضّ النظر عما سبق ذلك التفسير أو لحقه من الأفكار (التي هي أصلاً المقصودةُ في المقال، والتي لست متفقا مع صاحبها في معظمها أو في إيحاءاتها الابستمولوجية على الأقل).
  2. لا تؤهّلني قراءاتي الخجولة للبروفسور أن أتصدّى لمحاولة قراءة ما وراء سطوره، أو أتكهّن “ما يريد أن يقوله”، وإنما سأكتفي بما قاله أو بعبارة أدقََّ بما قال عنه الكاتب السوري هاشم صالح. وعليه فسأناقش المقولة وحدها، بغضّ النظر عن الحيثيّات الأخرى.
  3. لستُ من أهل التفسير. وأعي تماماً ما يكتنف تفسير كلام الله من الخطورة. وأعرف بأن متاهات الخطأ ليست مستبعدة عن خطواتي.. لذلك لا أفعل هنا أكثر من تقديم فهمي البسيط النابع من جملة ما فهمته وقرأته حول تفسير الآية وبعض من الآيات الأخرى. ثم إنني لا أحتكر الحقيقة. ولا أدّعي بأن ما أجنح إليه هو الصواب المطلق.

وإذا اتفقنا في كل ما مضى فيمكننا الآن الإقدام.

أولا: ماذا قال البروفسور؟ أو بالأحرى ماذا “يمكن” أن يكون قد قاله البروفسور وفق رواية الكاتب السوري؟ وللإجابة على هذا السؤال سنستعرض شيئاً من الففرة الطويلة التي أثار بعضُ سطورها الجدل، لنرى.
تقول المقالة من دون إحالة صريحة إلى البروفسور: «فالإخلاص للإسلام والتمسك به لا يعنيان إطلاقاً التطرف، بشرط أن نفهمه بشكل متنور صحيح. وذلك لأن الغرب يجهل أنه يوجد مفهومان للإسلام وليس مفهوماً واحداً: الأول وسطي عقلاني متسامح، والآخر أصولي متشدد. وهذا التمييز الأساسي هو الذي يفصل بين مثقفي التطرف والتعصب من جهة، والمثقفين الحداثيين التنويريين من جهة أخرى. حسن البنا ليس الإمام محمد عبده، وسيد قطب ليس العقاد ولا طه حسين، والقرضاوي ليس محمد أركون. وهذان المفهومان أو التفسيران الكبيران للإسلام متصارعان الآن ومتنافسان في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي. بل كانا متصارعين على مدار التاريخ. الغزالي ليس ابن سينا ولا ابن رشد، وابن تيمية ليس ابن عربي ولا الفارابي ولا المعري، إلخ. نضرب على ذلك مثلاً تفسير سورة الفاتحة وبخاصة المقطع التالي: «اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين». فالمتطرفون في الإسلام قديماً وحديثاً فهموا أن المغضوب عليهم هم اليهود، وأن الضالين هم النصارى أو المسيحيون. ولكنَّ هذا تفسير خاطئ تماماً لأشهر سورة في القرآن الكريم. فالمغضوب عليهم والضالون هم كل أولئك الذين انحرفوا عن الصراط المستقيم: أي عن خط التقى والورع والاستقامة في الفكر والعمل والسلوك. وهؤلاء قد يكونون مسلمين أيضاً لأنه يوجد مسلمون أخيار ومسلمون أشرار، مثلما يوجد يهود أخيار ويهود أشرار، أو مسيحيون أخيار ومسيحيون أشرار.»

وهنا، قبل المضيّ، أن نسجّل حقائق مؤلمة تفضيها إلينا الفقرة: منها أنه يمكن أن يكون كل هذا الذي قلناه عن البروفيسور في منشوراتنا مجرد هذيان أو هشيم تذروه العواصف، نظرا إلى أنه مبني على افتراض غير مؤكّد، إذ يمكن، اعتماداً على السياق، أن لا يكون هذا الكلامُ من البروفسور ذاته، وإنما من كاتب المقالة أو من خلاصاته لمفاهيم البروفيسور في التفسير. وهذا افتراض غير مستبعد، سيما إذا عدنا إلى مقالات الكاتب الأخرى ورأينا اهتمامه وتقديره اللافتين للحداثة وتمجيده لما يسميه بـ«الفكر التنويري» و«الأنوار» و«المنوّرين».. ومنها أيضاً أن هذا التفسير، كما هو واضح في هذه الفقرة، لم يكن أكثر من مثال استعراضي لفكرة رئيسيّة تدافع عنها المقالة. وأما نحن فقد تجاوزنا هذه الفكرة الأساسية ببراءة غير بريئة؛ ثم توفّقنا أمام القشور نتجادل مع مرايانا حولها، ونكيل جزافاً من الاتهامات لإنسان قد يكون بريئاً.

ثانياً: دعونا، لاختصار الطريق، نفترض بأن الإخوة يعتمدون في هجومهم على البروفيسور انطلاقاً مما قاله هو بنفسه لا هذا الذي نقله عنه الكاتب السوري هاشم صالح، وأن هذا هو التفسير الذي يتبنّاه البروفيسور ويدعو إليه، ثم بناءً على ذلك نتساءل حول مدى صحته.
وبعبارة أخرى: هل المغضوب عليهم يعني اليهود وحدهم، فيما الضالين يعني النصارى وحدهم كما يرى بعض المفسرين أم إن الآية تشمل الفريقين ومن لفّ لفّهما كما يرى البروفيسور والبعض الآخر من المفسرين؟

الجواب أن الخلاف في التفسيرين يعتمد على إشكالية لغويّة صغيرة لم يكن ينبغي أن تثير كل هذه الجعجعة. والإشكالية تتمثّل في كيف يجب أن نفسير “الـ” في المغضوب وفي الضالين؟ هل هي “الـ” العهدية أم إنها للجنس والاستغراق؟
فالذي أراه أن كلا التفسيرين صحيح، بل إنهما مع شيء من التحقيق لن يعودا أكثر من وجهين لعملة واحدة.

ولتوضيح ذلك، مع الاعتماد على المبدئ القائل بأن القرآن يفسّر بعضُه بعضاً، يجب أن نضع أمامنا هذه الآيات الأربع من القرآن الكريم لتشكّل بوصلتنا التأويلية، وتضيء لنا بُنيّات الطريق إلى المعنى:

الأولى: في حديث عن اليهود: قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرࣲّ مِّن ذَ ٰ⁠لِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَیۡهِ وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِیرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ شَرࣱّ مَّكَانࣰا وَأَضَلُّ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ.
نلاحظ أن الله، رغم أنه تحدث عن غضبه على “من”/الذي/الذين، ولكنه لم يقل أبداً: وجعلهم القردة، بل قال وجعل #منهم، ونلاحظ أنه وصفهم بالضلال أيضاً.

الثانية: في حديث عن النصارى: قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ لَا تَغۡلُوا۟ فِی دِینِكُمۡ غَیۡرَ ٱلۡحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوۤا۟ أَهۡوَاۤءَ قَوۡمࣲ قَدۡ ضَلُّوا۟ مِن قَبۡلُ وَأَضَلُّوا۟ كَثِیرࣰا وَضَلُّوا۟ عَن سَوَاۤءِ ٱلسَّبِیلِ
نلاحظ أن الله لم يتحدث عن “النصارى = الضالين”، وإنما، حسب السياق، عن #قوم من النصارى قد ضلُّوا وأضلوا..

الثالثة: في حديث عن أهل الكتاب عموماً (اليهود والنصارى معاً): لَیۡسُوا۟ سَوَاۤءࣰۗ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ أُمَّةࣱ قَاۤىِٕمَةࣱ یَتۡلُونَ ءَایَـٰتِ ٱللَّهِ ءَانَاۤءَ ٱلَّیۡلِ وَهُمۡ یَسۡجُدُونَ… إلى قوله: وأولئك من الصالحين”.
نلاحظ أن في كل من اليهود والنصارى مؤمنين بالله وصالحين بشهادة القرآن؛ وهم لا شك غيرُ المغضوب عليهم ولا الضالين.

الرابعة: في حديث مع المسلمين (وإن كان الظاهر العموم): وَمَن یَقۡتُلۡ مُؤۡمِنࣰا مُّتَعَمِّدࣰا فَجَزَاۤؤُهُۥ جَهَنَّمُ خَـٰلِدࣰا فِیهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِ وَلَعَنَهُۥ وَأَعَدَّ لَهُۥ عَذَابًا عَظِیمࣰا.
ونلاحظ أخيراً أن هناك من التصرفات ما يستوجب الله غضب الله، حتى ولو كان صاحبها مسلماً ومؤمنا برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.

وهذه الآيات الأربع مجتمعةً، إضافةً إلى آيات وأحاديث كثيرة أخرى، تعطينا أفكاراً واضحةً حول الموضوع، نلخّص ما يهمّنا منها هنا كما يلي:

  • هناك من اليهود صالحون وهناك من غضب الله عليهم، وهناك..
  • هناك من النصارى صالحون وهناك ضالُّون، وهناك..
  • هناك من المسلمين صالحون وهناك من غضب الله عليهم، وهناك..
  • وبعبارة أكثر تجريداً نقول بأنه يصدق فينا -نحن بني الإنسان عموماً- ما قاله الجنُّ عن أنفسهم: وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّـٰلِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَ ٰ⁠لِكَۖ كُنَّا طَرَاۤىِٕقَ قِدَدࣰا. وبين قوسين نضيف إلى أن هذه التجريديّة هي ما تمثّل الأسلوب التعبيري والأفق التصوّري الأكثر تناغماً مع ميولات البروفيسور الفلسفية.
  • إلا أن أهمَّ ما نستخلصه من تلك الآيات ومن إيماننا بعدالة الله المطلقة هو أن الإنسان لا يخرج إلى نور الحياة وقد طُبعت على جبينه دائرة حمراء تلتهب فيها شظايا غضب الله، وتنمُّ عن كائن فُرض عليه أن يسيىر حافياً على صحراء الضلال الأبديّ، بل إن هذا الغضب شيء يكتسبه الإنسان بنفسه لنفسه عن نفسه من خلال سلوكه ونيّاته وأعماله وأقواله ومعتقداته: يملك جلبَه إلى نفسه كما يملك التبرأ منه من خلال التوبة النصوح..

وبناء على هذا كلّه نقول بأنه للمفسّر أن يتخذ “الـ” في المغضوب عليهم عهديّة، ويقول بأن المعنى هو أولئك البعض من اليهود الذين حدّثنا الله عن غضبه عليهم مسبقاً (ولا يصحّ إطلاقاً أن يكون المعنى هو اليهود كافة ومن دون استثناء، تفادياً من التصادم مع نص قرآني آخر). وله كذلك أن يتخذ “الـ” في الضالين عهديّة، ويقول بأنها تشير إلى أولئك القوم من النصارى الذين حدّثنا الله عن ضلالهم وإضلالهم الكثير.. ويمكن كذلك للمفسّر أن يتّخذ “الـ” في كلتا الكلمتين للجنس، ويقول بأن المعنى يستغرق جميع الناس الذين انتهجوا -فكراً أو قولاً أو سلوكاً- منهج جميع أولئك الذين حلّ عليهم غضب الله، بغضّ الناس عن الشارات الانتمائية التي يلمّعون بها وجوههم.

وهكذا في كلا التفسيرين نصل إلى نتيجة واحدة ذات مستويات دلاليّة غيرِ متصادمة، بل متصاعدةٍ في خطٍّ واضح الارتفاع: هناك صنف أو حزب عقدي وسلوكي معروفٌ عنه بأن الله قد غضب عليه وأنه ضالٌّ (للعهد)، إلا أن هذا الحزب لم يكن أبداً مغلق الأبواب أمام الهُواة، بل مفتوح العضوية دائماً. فمن حقّ #كل من أراد أن ينتسب إليه ويستوجب غضب الله، أن يفعل ذلك من خلال اتباع خطوات محدّدة وتنبي آراء وسلوكيّات معيّنة (للاستغراق).

وأما المسلم الذي يدعو الله وهو يقرأ سورة الفاتحة بقوله: «اهدنا الصراط…» فإن مقصوده، لكي يكون واسعاً، يجب أن يخرج من ضيق الشخصنة والتجسُّد والتجسيد إلى سعة الفكرة والخيال والتجريد المطلق، ويطلب من الله عندئذ أن لا يجعله، بكل بساطة، من الذين يغضب عليهم، ولا من الذين يدعهم في غيِّهم يعمهون اي أن لا يجعله لا من الذين غضب عليهم فعلاً ولا من الذين في طريقهم للحصول على هذا الغضب.

ومن هنا كان الإمام البيضاوي رحمه الله تعالى دقيقاً عند ما فسّر المغضوب عليهم بالعصاة والضالين بالجاهلين بالله. ويعلّل ذلك في ومضة عرفانية مضيئة بقوله: «لأن المنعَمَ عليه من وفَّق للجمع بين معرفة الحقِّ لذاته، والخيرِ للعمل به، وكان المقابلُ له من اختلَّ إحدى قوّتيْه العاقلة والعاملة. والمخلُّ بالعمل فاسقٌ مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً {وغضِب الله عليه}؛ والمخلُّ بالعقل جاهلٌ ضالٌّ بقوله: {فماذا بعد الحقّ إلا الضلال}.»

وهكذا نجد أنه لن يعود هناك كبيرُ فرقٍ بين أن تكون “الـ” هنا للعهد أو للجنس؛ لأن كلا منهما في نهاية المطاف سيصبُّ حمولة معناه على مجاري السيرورة المعنوية للآخر، ثم يلتقيان على ضفاف مَعين واحدٍ من النهر الدلالي الموحَّد.

وبعد هذه الجولة السريعة نرى بأن التفسير الخاطئ في الآية (إن كان لا بدّ من الحديث عن تفسير خاطئ) هو الذي لا يكتفي بحصر المعنى على اليهود والنصارى وحدهم فقط، بل يسعى أيضاً ليمطّط دلالته حتى يشمل “جميع” اليهود و”جميع” النصارى. فإن كان هذا هو ما يعنيه البروفيسور في حديثه عن التفسير الخاطئ فأنا أراه محقًّا في كلامه، وأتَّفق معه فيه “على الطول”، إلى أن أجد ما هو أصحُّ منه. وأما إن كان المقصود هو شيء آخر فأفضّل أن أتريّث فيه حتى أجد بيانات من البروفيسور (لا عنه) أكثر تفصيلاً وإيضاحاً لرأيه لأتمكّن من التعليق عليه.

ثم إنه لا يسعني أن أضع النقطة الأخيرة من دون أن أعبّر عن أسفي الشديد حول ما قرأته من التّهم العريضة التي لا يتورّع البعض في إطلاقها على البروفسور من دون علم ولا بيّنة. غير أن أكثر ما يؤسفني في هذا المقام هو محاولة التشكيك في حصيلته المعرفيّة عن الإسلام كلها من خلال إثارة غبار كثيف، وبطريقة مريبة، حول مرافده العلميّة بصفتها “وسيطة”. ولا ينتبهون إلى أنه يمكن للقراءة المباشرة، بحكم مستوى صاحبها ومدى كفاءاته واهتمامه، أن لا تفقه شيئاً عن النص، بينما تتمكّن القراءة الوسيطة، رغم طول الزمن النسبي الذي سيفرضه عليها طبيعتها، أن تكتشف كنوزاً من المعرفة لم يكن صاحب القراءة المباشرة ليراها في أسخى أحلامه الشتائية.

لا أقول هنا بأن البروفسور يعرف من القرآن وتفسيره ما لا يعرفه الإخوة المستعربون الذين يتمتعون بميزة القدرة على الوصول المباشر للنص. ولكن أريد فقط أن أُلفت النظر إلى أن القراءة المباشرة وحدها ليست عصا سحرية تقتطف لصاحبها المعاني وهو مستلقٍ على سريره، كما أن القراءة غيرَ المباشرة لا تشكّل، في زماننا هذا، عائقاً كبيراً أمام فهم الإسلام واستيعاب مبادئه التي تُعدُّ البساطة والمنطقيّة من أبرز ما تتميز به، لا سيما بالنسبة لمن توفّرت لديه العصاميّة والمنهجيّة المنضبطة والوسائل اللازمة للبحث العلمي والتقصّي المعرفي.

ولا أريد مرة أخرى أن أزكّي البروفيسور الذي -كما قلت آنفاً- لا تخوّلني قراءاتي عنه (نظراً إلى إنتاجه الوفير الذي لم أطّلع حتى على ثلثه) أن أقول له ولا عليه الكثيرَ. وإنما أريد فقط أن أقول: يجب أن نكون طلابَ علم حقيقيّين، وأن لا نشنّ الهجومات الفارغة على الهواء الطلق الذي كان يجب أن نستمتع بطيبه ورخاء أنفاسه.

دكارنيوز