سؤال الإصلاح بين الدين والوطن: جامع مسالك الجنان أنموذجا.

0
118

كتب / زين العابدين أحمد إعلامي كاتب، وباحث في علم الاتصال .

  تم تدشين أكبر جامع في غرب أفريقيا في قلب العاصمة السنغالية دكار، "جامع مسالك الجنان" الفريد من نوعه بقاعاته ومآذنه وملحقاته بالإضافة إلى بزخارفه ونقوشه. وبحسب المصادر المطلعة بلغت تكلفة الجامع الإجمالية إلى ثلاثين مليون يورو أي ما يقارب 20 مليار فرنك سيفا. 

ويتسع الجامع لآلاف المصلين، كما استغرق بناؤه أكثر من سبع سنوات وبني على مساحة 6 هكتارات. ويرجع اسم الجامع نسبة لعنوان كتاب من مؤلفات مؤسس الطريق المريدية في السنغال الشيخ أحمد بمبا امباكي رضي الله عنه، وجاء تدشين هذا الجامع الشامخ في قلب دكار في ظل وجود أراض استراتيجية وضعها الاستعمار وخصصها من أجل بناء مؤسسات تعليمية راقية تضاهي تلك التي تتواجد في الغرب لتغري شباب وشابات السنغاليين من أجل الالتحاق بها، وذلك خدمة وتكملة لمشاريعهم التي شرعوها أيام الاستعمار لتغريب البلدان المستعمَرة بأي ثمن، لذا يعد هذا الجامع ثورةً وانتصاراً جديدا في العمل الإسلامي الصّوفي في السنغال، حيث حارب أمجاد هذه الدولة المستعمِر الفرنسي بالفكر والحكمة، فما ادّخروا الغالي ولا النّفيس من أجل إقامة شرع الله وتعاليمه السامية على الأرض وذلك لبناء وطن مزدهر. إن بناء المساجد وعمارتها على الأرض، تعد من أعظم القربات والطاعات، ولا يقوم به إلا من أقرّ قلبه بالإيمان ورجى الثواب والقبول من ربّ العباد كما جاءت في الآية الكريمة:
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا ٱللَّهَ ۖ فَعَسَىٰٓ أُوْلَٰٓئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ” ((18 سورة التوبة)) .

فجزى الله شيوخ الصّوفية في السنغال وعن الإسلام خير الجزاء، لقد علموا أن بناية الوطن يرتكز بشكل أساسي في بناية الإنسان أولا من خلال ثلاثة أمور أساسية:
المئذنة والمدرسة والمزرعة من أجل النهوض والرّكوب إلى سفينة الدول المتقدّمة، وهي ، بعبارة أخرى العبادة والتعليم والعمل.
ذي ثلاث أمور مهمّة لتحقيق تنمية مستدامة، لقد فهمها شيوخ الأمّة وحرصوا على إقامتها ونشرها في شتّى المدن والقرى التي يقيمون بها. فهنيئا لسماحة الخليفة المريدية وسوالفه على وجه الخصوص وأتباع الطريقة المريديّة وجميع أطياف الشّعب السّنغالي المسالم على وجه العموم على هذا الإنجاز الخالد بإذن الله، داعين لسماحة الخليفة العامة التوفيق التمكين في مسيرته خدمة الخادمية. ولا شك لهذا المشروع الضخم تداعيات ودروس مهمّة يتوجب التوقّف عليها وتشخيص حالاتها اجتماعيّا اقتصاديّا سياسيّا وسياحيّا.
والدروس المستفادة وراء مشروع مسالك الجنان هي كالتالي:

◾- اجتماعيا : أثبت هذا المشروع قدرة التّصوف المؤسّساتي في التّأثير على رأي العام بشكل مباشر، فنلاحظ التّلاحم الوطنيِّ منذ أن وضع الشّيخ المنتقى بشير امباكي حفظه الله قدميه في دكار قبل أيّام من تدشين الجامع رسميّا، حيث استقبل عددا من الزّوار بما فيه الشخصيّات الدّينيّة بمختلف أطيافها فضلا عن زيارات ساسة فاعلة في السّاحة، مهنّئين له وللطّريقة المريديّة على هذا الإنجاز الرّائع، مما يعني انفتاح الشّيخ على كافة مكوّنات الشّعب السّنغالي. لقد مرّ بنا أسبوعان حافلان بالأحداث السّاخنة ناتجة عن قضية كتاب التّاريخ العام للسّنغال، وقضية التلميذات المسلمات في مدرسة كاثوليكية بدكار، مما أثار الجدل في أوساط المجتمع السّنغالي، وقامت بتغطيتها وسائل الإعلام المحلية بشكل كبير، الأمر الذي كاد أن يهدّد بل أن يهدم التّلاحم الوطني والتعايش السّلمي بين الجموع والاستقرار الاجتماعيّ الذي نألفها بين كافة أطياف الشّعب السّنغالي منذ فجر الّتاريخ. إذ يأتي هذا الجامع في وقت حرج، لتوحيد صفوف المسلمين ولفتح آفاق الحوار وتقريب وجهات النظر، ونزع مفاهيم الجمود الفكري والتّطرّف الطائفيّ، فضلا عن نشر تعاليم الإسلام وشريعته بصورته السّليمة الصّحيحة.

◾-سياسيا: لاشك أنّ تدشين هذا الصّرح الشّامخ، أعقبته أمورعديدة لم يكن يخطر في بال أحد ربما، وبوتيرة متسارعة، على سبيل المثال، تصالح الرّئيس السّابق السيد عبد الله واد والرئيس الحالي السيد ماكي صال عن طريق الخليفة العامة للمديريّة، بعد سبع سنوات من التّقاطع، لقد حاول قبله كبار الشّخصيات، لكن كل هذه المحاولات باءت بالفشل، فشاء الله أن يكون التّصالح خلال تدشين جامع مسالك الجنان من خلال وساطته المنتقاويّة لتقارب المتخاصمين في أفضل وقت وأطهر مكان، مما يعني مدى تأثير التّصوف المؤسّساتي في المجتمع في كافة المجالات.


ولم ينته الأمر عند هذا الحدّ، بعد يومين فقط من التّصالح بين الرئيسين واد وصال على أيدي سماحته، بل تم إطلاق سراح السجين عمدة العاصمة دكار سابقا خليفة صال، إذ يرى المراقبون أن إطلاق سراح الأخير بعد سنتين وراء القضبان امتدادا لوساطته المنتقاويّة من أجل ترطيب وتهدئة جوّ العام السياسيّ والاجتماعي في الّسنغال.
اعتبارا على ما سبق، فإنه آن الأوان لساستنا أن يقدّروا زعامة المشيخة الدينية في الشؤون العاّمة حقّ تقدير من خلال طلب النصح والإرشاد بل حتى المشاركة في تسيير شؤون العامة.
لقد برز النجم رجل الأعمال السنغالي السيد امباكيو فاي مندوب الخلافة العامة المريدية في دكار في مشروع مسالك الجنان، الذي تولى المتابعة والتنسيق لهذا المشروع الكبير، حيث أدار المشروع بكل شفافية، كما كان يقدم التقارير بشكل دوري عن مجريات المشروع.
وأعلن في وقت سابق عن تاريخ التدشين وأوفى بوعده، واكتمل المشروع بتوفيق الله بكل تفاصيله، فأصبح الجامع جاهزا لاستقبال الزّوار والمصلّين.
يا ليت يتعلم ساستنا من هذا الرجل حول كيفية إدارة مشاريع العامة، والوفاء بالعهد المعلن، مع الأسف مشاريع العامة السنغالية بما فيها الجسور والسكك الحديدية والأشغال العامة الأخرى تُدشَّن اعتمادا على التاريخ الانتخابي في السنغال من أجل ذر الرماد في العيون وإغراء المواطنين من خلال تدشين المشاريع الغير المكتملة أصلا للحصول على الأصوات في الانتخابات.

◾-اقتصاديا: يعلّمنا مشروع جامع مسالك الجنان أنه بإمكاننا الاعتماد على أنفسنا، والقيام بالتمويل الذّاتي لمشاريعنا العامة إذا تكاتفنا الجهود دون الاعتماد على التّمويلات الخارجية المضِرّة وقروض المؤسسات البنكية العالمية السامة، التي غالبا ما تحدد نيّتها عن مصير تلك الأموال، وتضع شروطا معينة لها، بالتّالي الأجيال القادمة هي تتضرر في دفع هذه القروض مهما طال الزمن. وبإمكاننا كذلك وطنّية المشاريع العامّة أي تشييد مشاريع العامّة من قبل الشّركات المحليّة في وقت محدد دون الاعتماد بشكل كلّي على الشركات الأجنبية.
تشير التّقارير إلى أن المشروع أُنجز بنسبة كبيرة من قبل أيادي عاملة سنغاليّة، والشّركات المحليّة كما تم الاستفادة من خبرات الشركات التي شاركت في تشييد جامع مسالك الجنان.

◾-سياحيا : إن وجود هذا الجامع الكبير الجميل في قلب العاصمة دكار التي امتلأت بمعالم بعضها تتضمن شعارات ماسونية، وملاه الّلهو واللعب، ستضفي هذا الجامع الكبير للعاصمة وجها آخر يتضمن شعار الإسلام ويرتفع من مٱذنها ويعلو صوت ندائها ليعم الٱفاق. ليعلم السُّيّاح أن ليس في دكار معلم النّهضة الإفريقية والمسرح الكبير وجزيرة غوري وبحيرة وردية وما إلى دلك من معالم سياحيّة أخرى.
ولكن من الآن فصاعدا، ثمّة جامِع كبير يتّسع لآلاف المصلين وأن السنغاليين لا يهتمون ببناء التماثيل والملاعب والمسارح بقدر ما يهتمون ببناء المساجد، وأنّ السنغال وإن كانت بلدا علمانيا حسب الدستور، فهي بلد إسلامي يسكنها مسلمون مهتمون بدينهم، ومتمسكّين به.
وتعدّ الجوامع والمعابد من أهم العوامل السياحية التي تجذب السُيّاح في مختلف أنحاء العالم كتركيا مثلا: تهتمّ السّلطات بل وتعتني بها بشكل كبير في جذب السّيّاح، حتّى وظّفوا مواطنين أكفّاءَ للقيام بواجب دعويّ للزّوار وتعليمهم مبادئ الدين الإسلامي.
هذا، وقد أعلن الخليفة العامة للطريقة المريدية سابقا عن بناء مجمع الشيخ الخديم للتربية والتكوين المهني، والذي سيتسع لآلاف الطلاب من مختلف أصقاع السنغال.

وفي الختام، نجدد تهانينا الحارة إلى سماحة الشيخ المنتقى امباكي وإلى الأمة الإسلامية على الإنجاز الرائع، وندعو الله إتمام مشروعه القادم في أرض طوبى المحروسة متمنين له دوام الصحة والعافية ليواصل مسيرة الخادمية بإذن الله، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وسلم.

سيبتمبر_2019

دكارنيوز

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici