براهمة العالم ومنبوذوه قراءة في “دراسات في النظام العالمي، وضحايا الاقتصاد والعسكر، وفي الفصل العنصريّ للعالم”

0
638

القارئ: الشيخ مود بدر جوب .

الكاتب: علي الأمين المزروعي
المترجم: أحمد حس المعيني

عدد الصفحات: 118

“لئن كان الناس من الأصل الأوروبي هم براهمة النظام الطبقي العالمي، فإن السود وغيرهم في العالم الثالث ينتمون إلى طبقة المنبوذين”.
علي الأمين المزروعي.

يقتبس المترجم مقولة من الكاتب ليشرح خلفية عنوان الكتاب (براهمة ومنبوذ). وهما يعودان إلى السياق الاجتماعي الهندي؛ حيث قسم الهنود المجتمع الهندي إلى براهمة وهم الكهنة، والحكام والعسكريين والمزارعين والخدم، ومجموعات لا ترتقي لتلك المجموعات، وهم المنبوذون.

التقديم:
اقتبس المترجم هنا بعضا من مناقب الكاتب اقتبسها من كتاب كبار من إدوارد سعيد، ومن فيليب داربي القائل: إن المزروعي منظر المقاومة وقف بجانب الحق والعدل، لا النظام والاستقرار.
وتحدث في التقديم عن تاريخ ترجمة الكتاب وعن المفكر المزروعي، وأن البدء كان مجرد تغريدة من أحد علماء العمّانيين ينعي وفاة المفكر الإفريقي الكينيّ، وهو عناني الأصل. ثم تلقى طلبا لترجمة مقالة له، وفضّل أن تكون الترجمة كتابا من أفكار المرحوم. ومن هنا خرجت فكرة هذا الكتاب.

لماذا المزروعي؟
يشرح المترجم دواعي ترجمة إنتاجات المرحوم، وأنها لا تعود إلا إلى كونه مفكرا مؤثرا في المشهد العالمي، وأنه غيّر الصورة المتخيلة عن إفريقيا، إضافة إلى كونه خلّف إرثا فكريا يوصف أكاديميا بالمزروعيات تضمنت دراسات ورؤى في العلاقات الدولية والسياسية والنظرية السياسية والفلسفة وعلم الاجتماع واللغويات الاجتماعية، إلى جانب برنامجه الوثائقي في البي بي سي: “الأفارقة تراث ثلاثي”، كما كان عالميا إنسانيا بامتياز؛ فطرح أفكارا نقدية جريئة يفكك بها مضامين السياسة الدولية وموازين القوى في العالم وتأثير الحضارة الغربية.

نبذة عن المزروعي:
ولد سنة ١٩٣٣ من أبوين كينيين، وكان والده كبير القضاة وأحد رواد حركة التنوير في شرق إفريقيا. درس في الأزهر وأكمل دراسته الثانوية في بريطانيا والدراسة الجامعية في مانشستير، ثم درس الماستر في كولومبيا بأمريكا، وقد اجتهد للحصول على الماستر في تسعة أشهر فقط ليتفرغ من أجل دراسة مقررات أخرى في جامعات أخرى، ثم حصل على بعثة لدراسة الدكتوراه في أكسفورد البريطانية.
ثم تحدث المترجم عن مسيرة الكاتب مهنيا؛ حيث بدأ في أوغندا ثم سافر لأمريكا ليشتغل باحثا، وبعد ذلك تحول إلى أستاذ للعلوم السياسية في جامعة ميشيغين، ثم تحول إلى جامعة في نيويورك، وكان أستاذا زائرا في ستانفورد وأوكسفورد وهارفارد.

هذا الكتاب:
يتحدث المترجم هنا عن صعوبة إيجاد كتاب مناسب للترجمة عن المزروعي، لكنه فضل اختيار مقالات لها دلالات شمولية ووافية؛ فاختار أربع مقالات في الشؤون العالمية، ومن هنا تحدث عن أسباب اختيار تلك المقالات دون غيرها؛ لأن تلك تعد محورا لأطروحة المزروعي وهمّه الفكري: تحليل النظام العالمي، وتفكيك مضموناته وتحيزاته ضد الشعوب والثقافات الأخرى. ويرى المترجم أن الفكر المبدع يتجاوز الزمان والمكان، ولا يعرف تاريخا لانتهاء الصلاحية.

الفصل العنصريّ العالمي:
الدين والعرق في النظام العالمي الجديد.

يتحدث الكاتب هنا عن التقسيمات الأيديولوجية غير الدينية، القائمة على القبلية والعرقية كما في أوروبا؛ مما أدت إلى صراعات بين صربيا وكرواتيا، وروسيا وأوكرانيا، أو التشيك وسلوفاكيا. وهذا في أوروبا الشرقية. وأما أوروبا الغربية؛ فقد سعت نحو التكامل الإقليمي الذي يوصف بالقَبْلَنة الجامعة حين يلتحف بوعي عرقي يتشكل بتكافل الشعب الأبيض قومية أوروبية مغرورة تتجاوز في طموحاتها كل حدود عُرفت منذ الإمبراطورية الرومانية المقدسة!

يتساءل الكاتب: هل مع تفكك الفصل العنصري في جنوب إفريقيا نشهد تشكل فقل عنصري جديد مع نهاية الحرب الباردة وهل سنرى في القرن ٢١ عالما أبيض أكثر اتحادا وربما أكثر ازدهارا يتسيد على مصير عالم أسود متشظ وأكثر بؤسا؟ ويقول: علاوة على هذا التقسيم في العالم بين الأبيض والأسود قد يكون للدول الإسلامية ما يدعوها للقلق في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وهل سيحل الإسلام محل الشيوعية بصفته العدو المتصور للغرب؟
في هذه الورقة يذهب الكاتب إلى أن المسلمين هم ضحايا الجانب العسكري من النظام العالمي الجديد، في حين أن السود هم ضحايا الجانب الاقتصادي من هذا الفصل العنصري. لقد شعر المسلمون في الشرق الأوسط ببطش البنادق الأمريكية والطائرات الإسرائيلية المدعومة أمريكيا، كما شعر السود بالحرمان جراء الاستغلال الاقتصادي والإهمال الاقتصادي في وقت واحد.

الدين والنظام العالمي الجديد:
ضحايا الجانب العسكري من الفصل العنصري العالمي:

في هذا المبحث يتحدث الكاتب عن مخاوف الغرب من الإسلام، وأن هذا الخوف أقدم من خوفهم من الشيوعية، وإن كانت تلك الحدة تتخفف في السنوات الأخيرة؛ والسبب في ذلك هو ارتياحهم بسبب التوفق الذي حققه الغرب في التقنيات والعسكرية كما هدَّأ قلقهم أيضا من الإسلام بفضل حاجته إلى حلفاء مسلمين في مواجهة الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو.
ومع ذلك يرى الكاتب أن الأمر تغير مع السنوات الأخيرة، حيث انبعثت من جديد المخاوف الغربية من الإسلام بسبب الإرهاب الذي يعد سلاح الضعفاء عسكريا، بينما أصبح السلاح النووي هو خيار من استطاع إلى التقانية سبيلا. وبما أن بعض البلدان المسلمة بدأت تفكر في السلاح النووي، فإن المخاوف الغربية تصاعدت وكان لابد من رشوة مصر للتوقيع على اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية، ولابد من منع باكستان من القدرات النووية، والعراق يجب أن يمهل مع الكويت حتى يمكن تدمير كل ما لديه من أسلحة الدمار الشامل.
ويرى الكاتب أن المخاوف الغربية من الشيوعية تضاءلت مما سهل الطريق للغرب في التعامل مع الإرهاب القادم من العالم الإسلامي. فأطلقت القنابل على ليبيا، وطوّقت حركة سوريا، والسفن الحربية وصلت إلى الخليج الفارسي لتهديد إيران، كما قضت أمريكا بطائرة إيرانية مدنية وقتل جميع من فيها، كما تحدث الكاتب عن علاقة نفط المسلمين للصناعة الغربية. ويتساءل الكاتب هل كانت حرب الخليج ضد العراق جزءا من فصل عنصري عالمي؟
تحدث الكاتب عن الهيمنة الأمريكية والجرائم الحربية التي ارتكبتها في حرب العراق في التسعينات، حيث تعتبر تلك الحرب على العراق أول حرب كبرى للنظام العالمي الجديد، ويعني ذلك بروز فصل عنصري جديد على مستوي عالمي برأسه القبيح.
اتخذت الجنايات الغربية ضد المسلمين إما شكلا مباشرا في التفجيرات الغربية أو بالعدوان الغربي بالوكالة، وذلك بدعم إسرائيل دون انتقاد يوازي ذلك لسياساتها العسكرية والقمعية.
ويرى الكاتب أن سقوط الاتحاد السوفيتي في شرق أوروبا العالم الإسلامي بأشكال أخرى؛ لأن الكاتب رأى أن سكوت الاتحاد السوفيتي إبان إسقاط أمريكا طائرة إيرانية مدنية هو رفض للتدخل عسكريا كما فعلت أمريكا لما أسقطت الاتحاد السوفياتي طائرة كورية، حيث حشدت أمريكا العالم ضد إطلاق النار على الطائرة الكورية.
يرى الكاتب أن النظام العالمي الجديد يرتكز على أساس السلام الأمريكي حتى لو كان على طريقته الإمبريالية.
تحدث الكاتب عن العلاقة التي حالت دون إحلال السلام في الشرق الأوسط المتمثلة في إسرائيل مع الحرب الباردة.
كذلك استخف الغرب بباكستان مع نهاية الحرب الباردة، حيث قلل الغرب من القيمة الاستراتيجية لباكستان بالنسبة للعالم الغربي، وبدأت الضغوطات عليها تزداد للانصياع إلى الأوامر الغربية، وأصبحت المنجزات النووية الباكستانية مبعث قلق في علاقاتها مع أمريكا. بالنسبة للغرب لا ينبغي أن يتسلح الإسلام نوويا تحت أي ظرف، وبالتالي سعى الغرب إلى تحقيق الأهداف التالية: محاولة إيقاف باكستان من الحصول على السلاح النووي، وتدمير أسلحة الدمار الشامل العراقية، وتحييد مصر عبر دفعها إلى التوقيع على معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية، وضم سوريا إلى حظيرة الطاعة الغربية، ومنع القذافي من شراء الأسلحة النووية.
وقد سرد الكاتب معظم الحروب التي شنتها أمريكا ضد العالم الثالث تقريبا (بيروت، غرينادا، طرابلس، بنغازي، خطف طائرة مصرية في المجال الجوي، إسقاط طائرة مدنية إيرانية، بنما، اختطاف جنرال مانويل، قصف مدنا عراقية) ويقول الكاتب؛ إن عدد المسلمين أكبر بكثير في جميع هذه الأعمال العسكرية من غيره، فأكثر من ثلثي مصابي الأعمال العسكرية الأمريكية منذ حرب الفيتنام كانوا مسلمين. وهذا يعني أن المسلمين هم ضحايا النظام العالمي الجديد في الجانب العسكري، بينما السود هم ضحايا الجانب الاقتصادي.

العرق والنظام العالمي الحديد:
ضحايا الجانب الاقتصادي من الفصل العنصري العالمي.
هنا يتحدث الكاتب عن الصراع ضد القومية في أوروبا الغربية، ما اختفت مع اتفاقية روما السوق الأوروبية المشتركة سنة ١٩٥٧ مما أدى إلى تكامل إقليمي. ويتحدث أيضا عن التقارب ما بين يوغسلافيا والاتحاد السوفيتي إلى جانب حديثه عن انحدار الأيديولجية الاشتراكية في شرق أوروبا ومع ضعف الماركسية والبحث عن حلفاء عند السود. كما تحدث عن العنصرية الأوروبية عند الألمانية في شدة كراهية الأجانب وفي فرنسا مع الأجانب من شمال إفريقيا.
أشار الكاتب إلى العنصرية الممارسة في أمريكا، واستدل على الأمر بقضية Rodney king المتهم، والذي تعرض للضرب والركل؛ ما أثار احتجاجات قتل فيها ستين شخصا في لوس أنجلس. وسرد تاريخ السود ومعاناتهم من معاملات سيئة من قبل الحكومات السابقة، إضافة إلى الهولوكوستات التي تلحق بالسكان الأصليين وأولئك السود من أصول إفريقية. وقال الكاتب إن ٤٠٪؜ في السجون الأمريكية من السود.
ويقول الكاتب إن إفريقيا ينذر بالسوء؛ إذ ما زالت تنتج ما لا تستهلكه، وتستهلك ما لا تنتجه. ثم إن إفريقيا تنتج المواد الأساسية على مائدة الغرب، وفي المقابل تستورد إفريقيا أساسيات وجودها. والسبب في ذلك عند الكاتب هو تقلبات الأسعار وعدم استقرار السلع الأساسية والقضايا التي ليس لإفريقيا كبير رأي فيها، إضافة إلى أزمة الديون.
ويرى الكاتب أن من الأسباب قلة إفريقيا من التأثير في المشهد العالمي، كما تفقد دول إفريقية قوتها في النظام العالمي، وكذلك من الأسباب: التهميش الدولي لإفريقيا، غياب المعسكر السوفيتي بصفته قوة تعويضية في المعادلة العالمية، فالعالم بقوة عظمى واحدة يقل فيه تأثير الدول الصغرى. كما أن من الأسباب التهميش في الأمم المتحدة وفي مؤسساتها، إلى جانب أن قاضا العالم الثالث خسرت الدعم شبه التلقائي الذي كان يأتيها من الأعضاء السابقين في حلف وارسو. كما أن قلة الأعضاء في الأمم المتحدة من بين الأسباب.

يشير الكاتب إلى أن اعتماد إفريقيا على البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تضعفها لأنهما تحتفظان على قوتيهما أمام البلدان الإفريقية، وقد يصبح البنك الدولي قوة ضد الانجراف إلى الفصل العنصري العالمي، وفي أسوأ الحالات قد تغدو امتدادا لقوة الأعراق البيضاء على الشعوب الملوّنة في العالم.

الدولة الفرانكنشتانية والنظام العالمي:
يتحدث الكاتب هنا عن الدولة ذات السيادة، وعن المخلفات الحربية الأولى والثانية، وعن الجرائم الحربية من قتل اليهود بيد النازيين، والهيروشيما؛ فكلها كانت صرخات مطالبة بنظام دولة جديدة، ويتحدث عن كيفية إسهام الحرب العالمية الثانية في تأسيس سياسات وقوميات حديدة في آسيا وإفريقيا من أجل الاستقلال. وكل ذلك إحالة على رواية فرانكنشتاين.

الدولة الفرانكشتانية في حيّز التنفيذ:
هنا يتحدث الكاتب عن العوالم: الأول (دول الرأسمالية المتطورة) والثاني (القوى الصناعية الاشتراكية) والثالث (الدول النامية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية). ويتحدث عن فرضيات في شأن سيادة الدول في كل عالم من تلك العوالم الثلاثة وانعكاساتها الاجتماعية. ويقول في الفرضية الثالثة: “إن العالم الأول من الدول الرأسمالية المتطورة هو الأصل الذي نشأ منه أسوأ ما في الوضع الإنساني في القرن العشرين، وأفضله في الوقت نفسه”!
ثم يحكي عن طبيعة كل فرضية حول البلدان المستعمرة بأنها كانت ساحة للتنوع السياسي والاجتماعي في آخر أيام الحكم الاستعماري وأول سنوات الاستقلال بسبب التوترات الحاصلة بين الحركات الاجتماعية في تلك البلدان، وسعيهم نحو السلطة، إلى جانب استخدام الطرف المقابل القوة المادية في المواجهة ويتحدث عن منطق الدولة برؤية ماكس فيبر.

الدولة الاشتراكية: تناقض في المصطلح:
يقول الكاتب: سواء الفكر الليبرالي أو الاشتراكي؛ فكلاهما يعتبران الدولة أداة للاضطهاد؛ فالليبرالي نظر إلى الدولة باعتبارها تهديدا محتملا للفدر، في حين نظر الاشتراكي باعتبارها تهديدا للطبقات المشتغلة. ركز اليبراليون على تقليل أنشطة الدولة، وشدد الماركسيون على تقليل ضحاياها. لقد شدد لينين على أنه “في وجود الدولة، لا وجود للحرية”، ولئن كان هذا هو الحال فكيف لنا أن نضمن تقليل أذى الدولة على الناس؟
هكذا يناقش الكاتب (الدولة، الليبرالية، الاشتراكية)، وكيف أن كل واحد منهم يمارس فكرة الاستبداد على الآخرين من خلال آليات عدة مختلفة، حتى إن أصحاب السلطة هم أيضا رهائن لمنطق الدولة. يقول: إن من يتمكن من الاستيلاء على الدولة تستولي عليه في المقابل!
وهكذا تؤكد الدولة الفرنكنشتانية منطقها: فهي تقهر خالقها، بل وفي بعض الأحيان تلتهمه. حين ينجح الثوار في الاستيلاء على الدولة، يتمذهب الزعماء بنظام الدولة، بل يصبحون متعصبين له أحيانا. وحين يستولي العمال على الدولة باسم الاشتراكية، سريعا ما يتشكل لديهم وعي بالدولة بدلا من الوعي الطبقي؛ فيسعون إلى حماية مصالح الدولة التي يتحكمون فيها الآن بدلا من مواصلة النضال لتحقيق مصالح العمال الذين حكموا الدولة باسمهم. كما يذكر الكاتب تصور الماركسية الكلاسيكية واللينيينية التقليدية “ذيول الدولة”. حيث إن الدولة اعتُبرت أيديولوجيا أداة الطبقة الحاكمة، لذلك يحل الانشغال بمصالح الدولة محل الانشغال بمصالح الطبقة، وبالتالي يصبح بقاء الدولة هو الهدف الأساسي حتى لو كان الثمن قمع الزملاء العمال، أو الإخوة المواطنين.
ويقدم الكاتب الدولة المطلقة والدولة العسكرية (التي تحافظ على نفسها عسكريا) والدولة المطلقة تكون مفسدة كحال إسرائيل، ويقول الكاتب لقد أدت تجاوزات دولة هتلر المطلقة إلى نا أصبح لاحقا الدولة اليهودية العسكرية. ومثلما أفسدت النازية المطلقة الدولة الألمانية، أفسدت العسكرة الإسرائيلية الدولة اليهودية.
من هنا تحدث الكاتب عن مراحل نشأة إسرائيل وكيف نشأت؟ وشبهها بدولة ألمانية وإن كانت ألمانيا دولة مطلقة وعسكرية، على خلاف إسرائيل التي هي دولة عسكرية، ويشرح كيف أنها أسوأ قوة استعمارية في القرن العشرين، إضافة إلى إشارات عن كيفية إنشاء حركات اجتماعية فلسطينية تحلم إلى إقامة دولة مستقلة.

السيادة غير المتساوية والأمم المتحدة:


هنا حديث عن تاريخ نشأة المنظمة الدولية الأممية، وكيف أنها كيان لتحييد ولكبح جماح السيادة لتحقيق السلام. تدعي أنها تجسيد للعلاقة الجدلية بين التوكيد على سيادة أعضائها، والسعي إلى تقييد تلك السيادة. فنظام الأمم المتحدة جزء من الطموح البشري لإنشاء برلمان للعالم، لكن كل عضو من هذا الكيان العالمي يغار على سياسته، ولن يسمح لهذه الجمعية أن تضع حدودا لها! والمفارقة الأخرى هي أنها تدعي المساواة لكل عضو من أعضائها، في حين أنها مسرح كبير لتمثيل التفاوت في السيادة بين الدول. للدول الأعضاء صوت متساو -على الأقل خارج مجلس الأمن- لكنهم فعليا لا يتمتعون بقوة سيادية متساوية!
ويواصل الكاتب وصف طبيعة تلك المنظمة الدولية التي يراها تؤثر سلبا على العالم الثالث، فيتمثل في وضعها كإمبراطورية للعالم الغربي، وهو ميدان آخر للقوة والهيمنة الغربية على الشؤون العالمية. وبهذا المعنى عند الكاتب كانت الأمم المتحدة منذ البداية تابعة ومستعمَرة للغرب! وهي تجسد التبعية المؤسسية، فكما قسّمت إفريقيا لإخضاعها قسّمت الأمم المتحدة جزئيا كي يمكن الهيمنة عليها، ومن هذا المنظور ظلت ضحية الإمبريالية. وبشكل أدق عند الكاتب، فإن هذا الكيان ومؤسساته المتخصصة وقع تحت هيمنة الولايات المتحدة، وكأنها إقليم تابع لما يُعرف باسم السلام الأمريكي. ويقول الكاتب في النهاية: “استعمر أمريكان الأمم المتحدة”، ولكن أصبحت إمبراطورية أمريكية بالصدفة لا بالتخطيط.
ثم بدأ الكاتب يشرح كيف تحولت أمريكا قوة عظمى بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف أن بريطانية أصبحت تابعة للقوة الأمريكية رغم تمتعها بحق الفيتو ، في حين ظلت فرنسا مترددة بين الاستقلال الوطني والولاء للحلف الأطلسي، ويشرح الكاتب كيف أن التقانية ساهمت في ذلك مع انحسار دور كل من اليابان وألمانيا اللتين ظلتا تابعتين لأمريكا عسكريا وسياسيا. ويقول الكاتب: إن الأمم بالغت في تخصيص مسؤولية مالية عن حوالي ربع الميزانية الإجمالية للأمم المتحدة، ثم واصل الكاتب في شرح كيف تحولت الأمم المتحدة مستعمرة لأمريكا، بما في ذلك تقرير مقر المنظمة في نيويورك. ويري الكاتب أنه مهما فعلت المنظمة من إصلاحات فإنه لابد من كيانات عالمية بديلة، كما أننا أيضا سجناء اقتصاد العالم الرأسمالي.

إمكانات تأنيث الدولة:
يتطرق الكاتب هنا إلى مسألة النسوية وعلاقتها بالدولة. ويرى أن النساء لا يسعون نحو الاستيلاء على الدولة كبديل عن الرجال. فالأرجح هو أن النساء اللائي قد يحكمن الدولة لن يعنيهن احتلال محل الرجال. فمطلب النسوية في الواقع ليس الاستبدال وإنما التوازن، وليس الإبدال الكامل وإنما الإزاحة، وليس السيطرة وإنما التكافؤ. لن ترعب النساء في احتكار حكم الدولة، وإنما في مشاركته بالتساوي، مما يتعرض تماما مع موقف الجماعات المحرومة؛ فالمقاتلون التحريريون الوطنيون لا يسعون أبدا إلى مشاركة الأجانب بالتساوي بعد التحرير، والعمال الاشتراكيون لا يسعون أبدا إلى مشاركة البرجوازيين بالتساوي بعد انتصار الثورة. في الواقع لا تطلب النساء أكثر من المساواة، إذ إن طموحهن الأقصى هو تحقيق مساواة تشمل الرجال أيضا، ولكن هل حين تصبح الدولة ثنائية الجنس ستتغير طبيعتها؟!
يقول الكاتب: فكل ما نعرفه هو أن الدولة ظلت حتى الآن مرتبطة بالنظام الأبوي ومبدأه الأساسي المتعلق بالهيمنة الذكورية.
والكاتب يرى أن العنف صفة ذكورية؛ وذلك لأن النساء أقل ميلا للعنف من الرجال، وقد يتغير مفهوم الاستخدام الشرعي للقوة حين تصبح الدولة ثنائية الجنس، حتى الآن ما يزال الذكور هم الجنس السائد في أدوات عنف الدولة. ويقول الكاتب: إن لعبة العنف الجسدي وإراقة الدماء كانت تراثا ذكوريا أكثر منه أنثويا. إذن فقد ظلت جنسانية الدولة ذكورية.

أخلاقيات القوى العظمى: منظور من العالم الثالث:
في هذا الإطار يناقش الكاتب قوة الثنائية العظمتين، وكيف تتصرفان إزاء المنظور الأخلاقي والسياسي، وما علاقتهما بالعالم الثالث اقتصاديا.
ويرى الكاتب المزروعي أن الميول الأيديولوجية جزء أساسي من تكوين أخلاقيات القوى العظمى؛ فالمفروض في نظر الكاتب أن تكون الاشتراكية تقوم بإعادة توزيع للقوة الاقتصادية لصالح المعوزين، والليبرالية تقوم بإعادة توزيع للقوة السياسية لصالح المهمشين. ويرى المزروعي أن الولايات المتحدة كيان سياسي ليبرالي داخليا، ولكن على المستوى الدولي هل ستسعى السياسةُ الأمريكية إلى إعادة توزيع القوة السياسية لصالح الأمم المهمشة؟ ويرى الكاتب أن الاتحاد السوفيتي اشتراكي، ولكن على المستوى الدولي هل ستعمل السياسة السوفيتية على إعادة توزيع القوة الاقتصادية لصالح الأمم المعوزة؟
على الرغم من أن الاتحاد السوفيتي يقر بعقيدة “الحتمية الاقتصادية”، إلا أن أثره في التغيير الاقتصادي في العالم الثالث ضئيل للغاية. وعلى الرغم من العقيدة الليبرالية لأمريكا، إلا أن أثرها في تحرر العالم الثالث سلبيّ أسوأ من مستوى الضآلة. وتلك أسباب متأصلة لهذه التناقضات العقدية!

القوى العظمى وإعادة التوزيع الاقتصادي:


مشكلة الرأسمالية المتوحشة، وكيف تضعف الدول الإفريقية:
المزروعي يرى في هذه النقطة أن للاتحاد السوفيتي وحلفائه الاشتراكيين دورا أصغر بكثير من دور الغرب في التنمية الاقتصادية لإفريقيا، وثمة أسباب جعلت العالم الرأسمالي أكثر ارتباطا من الناحية الاقتصادية بإفريقيا والمناطق النامية الأخرى من ارتباط المعسكر السوفيتي بتلك المناطق.
أولا: النظام الاقتصادي العالمي بات تحكمه الرأسمالية العالمية، وقوانين التبادل الدولي مستقاة من الرأسمالية بما في ذلك النزعة القوية إلى قواعد العرض والطلب واستقلال قوى السوق، وأهم عملات الصرف الدولية هي عملات غربية يتزعمها الدولار الأمريكي، والاتفاقيات الدولية للتعامل الاقتصادي جزء من القاموس الغربي بما فيها الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة، وأهم المصاريف التجارية هي بطبيعتها رأسمالية. والمصاريف التنموية تخضع لسيطرة الغرب، وعلى رأسها البنك الدولي الذي جرت العادة أن يرأسه أمريكي، إلى جانب صندوق النقد الدولي الذي جرت العادة أن يكون مديره العام من غرب أوروبا.
يرى المزروعي أنه على الرغم من مواجهة الدول العالم الثالث مع صندوق النقد الدولي، قاومت أحيانا شروط المؤسسة، إلا أنها تذعن في أغلب الأحيان في النهاية، كما يرى المزروعي أن الأسواق التي تفتح أبوابها لمنتوجات العالم الثالث هي غالبا أسواق غربية، والدول الإفريقية تحديدا تجاهلت فرص التجارة مع جيرانها الأقربين بسبب الاستعمار الاقتصادي الموجهة من الخارج. وهناك عند المزروعي ذلك التفاعل التبادلي في طبيعة الإنتاج العالمي؛ ففي حين أن عبقرية الاشتراكية تكمن في التوزيع، إلا أن الرأسمالية هي التي جسّدت عبقرية الإنتاج. ولا يوجد نظام عند المزروعي في التاريخ البشري أبدى قدرة على التوسّع الاقتصادي أكثر من الرأسمالية، وإحدى نتائج ذلك كما يقول الكاتب: إن الغرب ينتج أكثر من المعسكر السوفيتي بكثير مما يحتاج إليه العالم الثالث -راجع تقريري عن كتاب “جزر الشر: كيف تقودنا الرأسمالية إلى الهاوية”.

فالكاتب يربط سياسة التأثير الغربي على تنمية إفريقيا بالمساعدات الخارجية وبالأعمال الخيرية الدولية، فيذكر أربعة أسباب رئيسية من المساعدات الخارجية: (العمل الخيري، التكافل، الاحتواء، والمصالح الخاصة)، والغرب يستخدم تلك الأسباب جميعها وفقا بكل حالة. والكاتب هنا يذكر موقف الاتحاد السوفيتي تجاه تنمية إفريقيا، حيث يربط الاتحاد السوفيتي التأخر التنموي في العالم الثالث بنتائج الإمبريالية الغربية، ولا يكون تصحيح هذا التأخير إلا عن طريق “التعويضات” الغربية، وليس من باب المساعدات. والكاتب يقول: “في الحقيقة إذا تحرّينا الصدق، فإن معظم علل الاقتصادات الإفريقية تُعزى بشكل مباشر إلى الإرث الإمبريالي”، ويقول الكاتب: “لذا يشعر الاتحاد السوفيتي أنه لا ينبغي للدول الاشتراكية أن تخلص الغرب من مواجهة مسؤولية بعد الاستعمارية في تلك المناطق”، كما يذهب الكاتب إلى “أن الاعتقاد السوفيتي الراسخ هو أن ظروف التأخر هي أرضية خصبة للثورة الاجتماعية”، كما يرى ماركس نفسه أن “التنمية لا التأخر هي التي تصنع الحالة الثورية”.

القوى العظمى والتحرر:


هنا يناقش المزروعي أيديولوجية فكرة الليبرالية علي مستوى توزيع القوة السياسية لصالح المهمشين، ويرى الكاتب بناء على أسباب أن الولايات المتحدة أب للإمبريالية في القرن العشرين، وأن السبب الذي جعلها ذات يوم ثورية هو نفسه ما جعلها اليوم إمبريالية. وهنا ناقش الكاتب سياسة أمريكا في استخدام القوة المفرطة، وكيف أن فكرة فصل السلطات حد من حدة رؤساء أمريكيين سابقين من التدخل العسكري؛ مثلا في أمريكا الوسطى. كما وضع الكاتب مقارنة قصيرة على فكرة مبدأ سياسة التوسع السياسي لدى كل من الاتحاد السوفيتي مع دول البلطيق، وأمريكا على مستوى ضم كثير من البلدان مثل المكسيك وكاليفورنيا وفي آسيا كالفليبين، ثم تحول بعد الحرب العالمية الثانية إلى قوة إمبريالية. وهذا في رأي الكاتب يختلف مع فكرة الآباء المؤسسين لأمريكا، وربما تقلبوا في قبورهم حين شاهدوا طفلهم وقد أصبح رحلا ضخما وخطيرا، وربما يؤكدون الآن ما قاله اللورد أكتن عن أن السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مهددة بالمفسدة المطلقة، هكذا اكتسبت أمريكا مخالب الإمبريالية لدى الكاتب.
ويتساءل الكاتب عن إذا كانت السلطة قد أفسدت الولايات المتحدة، فهل أفسدت الاتحاد السوفيتي أيضا؟!
ولئن شكلت أمريكا تأثيرا سيئا على تحرر العالم الثالث، فلم لا يكون الاتحاد السوفيتي بالمثل تأثرا عكسيا على الدول النامية؟
يقول الكاتب: إنه من نافلة القول إن الاتحاد السوفيتي قد أفسدته السلطة كذلك، ولكن في حالته ليس العالم الثالث من يدفع الثمن، لذلك يذهب الكاتب إلى أن الاتحاد السوفيتي كان قوة إمبريالية في أوروبا، ولكن في الجهة الأخرى كان الاتحاد السوفيتي قوة تحريرية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية. كما كان إفريقيا الجنوبية خصوصا المستفيد من المساعدات العسكرية التي قدمتها الدول الشيوعية، ومن دون هذه المساعدة كان تحرر إفريقيا الجنوبية سيتأخر جيلا كاملا على الأقل.
لقد قدم العالم الشيوعي لمقاتلي التحرر في إفريقيا الجنوبية العتاد، بدءا من بنادق سْتين الرشاشة إلى صواريخ أرض-جو، ويبدو أنه لا يوجد كبير شكٍ في أن تحرر نامبيا وجمهورية جنوب إفريقيا سيضطر إلى الاعتماد اعتمادا على نعم العالم الشيوعي (ومنها دور القوات الكوبية في تعزيز المناطق المحررة مثلا أنغولا)، وقد أسهب الكاتب في تشريح نمط مساهمة الاتحاد في تحرير كثير من البلدان في العالم، إلا أن الكاتب يرى أن الاتحاد شرع في عمل إمبريالية في الريع الأخير من القرن العشرين حيث غزى واحتل أضعف جاراته وهو أفغانستان، غير أن المزروعي بشكل عام يرى أن الاتحاد السوفيتي كان بشكل إجمالي حليفا لتحرير العالم الثالث من الاستعمار، رغم الاستثناء السافر في أفغانستان.
وقد ناقش الكاتب الأسباب التي دفعت الاتحاد إلى هذا السلوك، وبعضها تعود لطبيعة تصرفات الرأسمالية الغربية، وقد أحال الكاتب على كتاب حول هذا الموضوع “الاستعمار الحديد: المرحلة الأخيرة من الإمبريالية” لكوامي نكروما، كما رآى أن تحرير المناطق التي سيطرت عليها العرب بابا لكسب أصدقاء جدد سياسيا لما بعد الاستعمار.
القوة العظمى وأخلاقيات العنف:
هنا يناقش الكاتب أنشطة القوتين على مستوى بيع الأسلحة ولمن وما هي الأسلحة التي تباع، ويرى أن كلتا القوتين منافقتين في مجال العسكرة وأخلاقيات العنف السياسي، وأن الإرهاب والسلاح النووي تتعرضان لازدواجية المعايير الأخلاقية.
وقد أشار إلى قضايا الإرهاب وفرّق بين الإرهاب الممارس لدى جماعات وبين الإرهاب الدولي؛ فيري الكاتب أن إرهاب الدولة هو الذي ينجو عادة من الفحص الأخلاقي الدقيق، بينما الغارات الإسرائيلية الانتقامية هي في العادة حالة إرهاب مضاد لا يكترث بأرواح المدنيين الأبرياء، وكثيرا ما يكون أكثر تدميرا. ويشير الكاتب إلى استخدامات إسرائيل للقنابل العنقودية الموجهة في غزو لبنان في مقابل مجرد وخزات فلسطينية، كما يشير إلى استخدامات الولايات المتحدة قنابل عنقودية في هجومها على بنغازي عام ١٩٨٦، كما يشير الكاتب إلى دعم الولايات المتحدة لحركات تمارس أساليب إرهابية. ويقول الكاتب إن تلك الممارسات كلها توصف بازدواجية المعايير في قضية الإرهاب.

يذهب المزروعي إلى أن ازدواجية المعايير النووية هي أمثر جوهرية. ويرى أن ثمة تقسيما طبقيا نوويا في العالم إزاء اتفاقية الحد من انتشار الأسلحة النووية المبني على مبدأ الاحتكار النووي. وهذا تقسيم للعالم بين البراهمة النوويين والمنبوذين غير النوويين، كما أن الإمبريالية التقانية تتشكل؛ فالتقانية النووية العسكرية ما تزال شيء غير آمن أو مفيد للأفارقة أو الآسيويين. بل يشير الكاتب إلى أحد الأسباب وهو أن الغرب قلق من “وجود الأسلحة الخطأ في الأيادي المناسبة”، أي الأدوات المميتة في قبضة الأيادي المتزنة، ولم يكن هذا منذرا بما يكفي لدفع القوي الكبرى إلى نزع حقيقي للسلاح. وحين تصل الأسلحة النووية إلى العرب أو الأفارقة السود سيحل كابوس حديد بوجود “الأسلحة الخطأ في الأيادي الخطأ”، أي الأسلحة المميتة في قبضة الحكومات المتزعزعة.

العالمية الثنائية للحضارة الغربية:
الاستعلاء الإثني في فكرة “التقدم” وفي العلوم الاجتماعية الغربية.

ناقش الكاتب في هذا الإطار مفاهيم اقتصادية اجتماعية مثل التقدم والتنموية والماركسية والليبرالية وعلاقة تلك المصطلحات بالعالم الثالث، وماذا تحتاج تلك المفاهيم لتفقد معاني إيجابية. ويعتقد الكاتب “أن مبدأ التقدم يستلزم مفهوم العالمية”، كما يقول: إن الماركسية والتنموية احتاجتا إلى صورة لمجتمع مثاليّ، فالماركسية اعتبرت الرأسمالية الغربية مرحلة وسيطة للوصول إلى المجتمع المثالي، في حين نزعت التنموية إلى اعتبار الرأسمالية الليبرالية المنجَز النهائيّ أي ما سماه فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ”.
فالكاتب يرى أنه من نافلة القول اختيار الغرب قدوة أو مجتمعا مثاليا لهو اختيار مستعْلٍ إثنيا، وينتقد الكاتب الفكر الغائي الغربيّ واليهودي-المسيحي، ويرى أن النظريات الغربية حول التقدم كانت نقطة التقاء بين مبدأين عالميين؛ أحدهما دينيّ والثاني علميّ. فالعالمية عند الكاتب أثرت في الدين الغربي على أساس المعيارية لنظرية التنمية والتقدم، وسعت إلى تحويل العالم بالمعنى الديني إلى الثقافة الغربية، أما العالمية في العلوم الغربية، فقد أحالت ثقة الغرب بنفسه ثقافيا على توسعية تقانية. والكاتب يقصد بالعالمية الثنائية للحضارة الغربية اندماجا بين المعتقد الديني والعقلانية العلمية جزئيا.
يتساءل الكاتب: إذا كانت الثقافة الغربية شديدة العالمية في نطاقها، فكيف لها في الوقت نفسه أن تكون مستعلية إثنيا؟!
يرى الكاتب أن عالميتها هي إحدى أسباب استعلائها الإثني، ويشير إلى فكرة اليهود الاستعلائية “الشعب الختار”، وكذلك نفس المنطق في الغرب عن عالمية العلم البشارة اليسوعية، ثم عرّف الرجل الغربي الأبيض نفسه بوصفه السلالة المختارة، ونظر إلى نفسه على أنه النموذج المثالي للبشرية.
وهكذا يرى الكاتب أن الغرب “عرقن” المفهوم اليهودي للشعب المختار، ودون استخدام التعبير نفسه وضع الأوروبيون مفهوما عرقيّا لأنفسهم بوصفهم الشعب المختار، ويقول المزروعي إنَّ ما كان في السابق معتقدا دينيا من الاستعلاء الإثني اليهودي أصبح مرتكزا للغرور في العرقيّة الأوروبية.

فالكاتب هنا يناقش قضية جدلية في الساحات الإبستمولوجية المعرفية وهي “قضية القطيعة المعرفية”. ويقول إن الغربيين يميلون في ردّ حضارتهم إلى ثقافتين، وكل منهما مختلط: التراث الإغريقي الروماني، والتراث اليهودي المسيحي. فالتراث الإغريقي الروماني هو منبع الروح العامية، والتراث اليهودي المسيحي منبع الأخلاقيات الغربية. ويرى الكاتب أن العالمية الدينية لا العلمية هي التي ظلت تغذي النظريات الغربية حول التقدم والتنمية.

عقيدة الشعب المختار:
يتساءل الكاتب أن وثق المرجعية الدينية لهذه العقيدة في الكتب المقدسة: هل هذا الاصطفاء بسبب صفات أخلاقية وحسّ عرقيّ متفوق؟ أو هل يكون مسألة مسؤوليات أثقل؟ حين نودي اليهود لإظهار كلمة الله وحفظها ونشرها، هل طُلب منهم كذلك أن يحرصوا على معايير أعلى من السلوك الأخلاقي والروحي؟
أشار المزروعي إلى خلفيات هذه المعتقدات العنصرية من لدن اليهود، وأنها بدأت تنخفض عند الإصلاحيين، ومع ذلك تبقي متجذرة في عقيدتهم. كما أشار أيضا إلى نفس الاعتقاد عند المسيحية، وأنها مفهوم ومعتقد مشترك بين اليهودية والمسيحية، حيث اعتبرت المسيحية معتقد الشعب المختار أداة لخدمة الإمبريالية وأداة للتقدم.
وكشف الكاتب كيف تم الاندماج والمزاوجة ما بين التراث الإغريقي الروماني والتراث اليهودي المسيحي، الذي جاء مع قبول الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول (280-337م) الديانة المسيحية، وربط فكرة الاستعلاء المسيحي مع استعمارهم لأمريكا وإفريقيا وآسيا، لذلك صاحبت الاستعمار فكرة التبشير والتعمير وخدمة الله، فجاءت الحملة الصليبية.

من العرقية إلى الاستعلاء الإثني:
يتحدث الكاتب هنا عن مصدر أثر في الدراسات الاجتماعية العربية وهو كتاب أصل الأنواع لداروين، وكيف حول الكتاب تفكير الغرب على مستوى تصنيف الأشياء من الإنسان وحتى أصغر زاحف يكتشف بالمجهر. وفي قمة هذه التراتبية كان الشعب المختار، ولكن المزروعي جاء بانتقادات العلماء لتلك الأفكار، فاستدل بقول فيليب كِرتِن: “بما أنه لا يوجد تبرير علمي أو بيولوجي صارم للقول إن عرقا واحدا أعلى من آخر، فإن معايير الترتيب لابد أن تأتي من افتراضات غير علمية”.
يحيل الكاتب على مفاهيم الزعامة التي غالبا ما تقود إلى مفاهيم الحق في حكم الشعوب الأقل تقدما. فحتى نبيّ الليبرالية جون ستِوَارت مِلْ قال: “إن الاستبداد أسلوب شرعي في الحكم عند التعامل مع البرابرة، على أن تكون الغاية تطويرهم”.

التطور والتفاؤل:
هنا يناقش الكاتب علاقة التقدم والتطور بعناصر الاختلافات البيولوجية والثقافية والتقليد لدى بعض الشعوب المتخلفة. ويقول: إن تلك المفاهيم قدّرت أن تبقى إلى مرحلة التوسع الاستعماري في إفريقيا، واستُخدمت لشرعنة السياسات الاستعمارية، كما كشف المزروعي كيف ربط الاستعمار الفرنسي في محاولة استيعاب وفرنسة الأفارقة بذلك النبع التاريخي من العالمية المستعلية إثنيا.

عن النبوءة والغائية:
يناقش الكاتب هنا النبوءة والإخبار بالمستقبل كوسيطة لإثبات المصداقية دينية كانت أو علمية، ويوضح كيف أصبح هذا العلم مرتبطا بالعلوم الاجتماعية بعد أن كان من قبلُ من شغل الدين لدى العرب واليهود. وكيف انتقل النقاش عن الماضي والحاضر والمستقبل إلى الفلاسفة وعلماء الاجتماع كما في “العقد الاجتماعي”؛ حيث اتكأ تراثه بصفته أساسا للالتزام السياسي على فرضيات متعلقة بماضي الإنسان. ويشرح الكاتب كيف أن بعض الفلاسفة السياسيين يمضون وقتا أطول في محاولة فهم الماضي منه في محاولة إدراك شكل المستقبل. وبيّن الكاتب كيف أن المفكرين الدينيين نظروا إلى الإنسان بوصفه حاجّا لا مسافرا.
ثم يعود الكاتب ليشرح وجهة نظر كل من الماركسية والليبرالية للدولة وعلاقتها بالحريات، فيقول: إن الليبرالية والماركسية تحملان ارتيابا عميقا في الدولة بوصفها أداة للقهر؛ فماركس ينظر للدولة على أنها أساسا أداة للاضطهاد الطبقي، والدولة بالنسبة لليبراليين دائما ما تكون تهديدا للحرية الفردية…

التقدم وقوانين الانتظام:
يناقش الكاتب فكرة الحتمية بين العلمية والجبرية الدينية في مستقبل العالم، ويأتي بأفكار الماركسية في هذه الناحية، حيث إن الحتمية هي الاعتقاد بأن “حالة الكون الحالية نتيجة لحالتها السابقة، وسببٌ لحالتها الآتية”، ووفقا للعالم الرياضي لابلاس، “فإن المرء إذا استطاع أن يستوعب ما حدث قبل الحاضر سيمكّنه أن يتنبأ بما سيحدث في الغد”، ويشرح إيمان كلا الطرفين؛ الحتمية الدينية التي تؤمن بقوانين الله، وحتمية العلمية الذين يؤمنون بقوانين الطبيعة، وقد يكون من الأشكال المتخفية للحتمية الجديدة البحث عن نسق منتظم للسلوك البشري يمكن ردّه إما تصريحا أو تلميحا إلى بعض القوانين التي تحكم استجابات البشر لحالات معينة. هذه الافتراضات الدقيقة للأنساق المنتظمة من الاستجابات البشرة هي التي وفّرت جسرا بين النظريات المعيارية العقلانية كالماركسية، والنظريات السياسية العلمية في أوقات قريبة، ومقاربات العلوم الطبيعية وطرقها.
وفي النهاية، يذكر الكاتب أنه حاول استكشاف التأثير المتبادل بين الاستعلاء الإثني الأوروبي والعالمية الثنائية للحضارة العربية فيما يتعلق بالتقدم والتنمية. وقد برهن على أن العلوم الاجتماعية الغربية هي إلى حد كبير نتاج لمكونين عالميين؛ هما العلوم الطبيعية والتراث اليهودي المسيحي.
وقد كشف الكاتب كيف ورث الغرب فكرة الاستعلاء العنصرية لدى اليهود المتمثلة في عقيدة “الشعب المختار” حيث ذهب الغرب إلى أن الرجل الأبيض هو السلالة المختارة، مما أدى إلى تشوه في التنمية والتحديث بسبب الصدام بين الاستعلاء الإثني الغربي والعالمية الثنائية للحضارة الغربية.
كما بيّن توظيف الغرب لفكرة التقدم لتبرير تصنيف المجتمعات من البدائية إلى المتحضرة، وباسم التقدم تم الدفاع عن تجارة الرقيق كطريقة لدفع عجلة الثورة الصناعية، وباسم التقدم استُغل الأطفال ليعملوا في مصنع تلو الآخر، وباسم التقدم احتفى وديرد كِبلنغ بالإمبريالية، التي يشكّل العرقُ أحدَ ملامح وعيها. وقد تصبح مبادئ التقدم مكيافيلية بسهولة، إذ تُبرّر الوسائل القاسية في سبيل الغابات النبيلة….

انتهى
الشيخ مود بدر جوب

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici