السباق الرئاسي في السنغال فبراير 2024م، انتخابات أو انتقاءات؟

0
733

بقلم/ المفكر الإسلامي البروفيسور محمد غالاي انجاي – بروكسل مدير معهد المحراب ببروكسل.

نص ونستون تشرشل، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، والذي كان رئيس وزراء المملكة المتحدة (من عام 1940م إلى 1945م) قائلا: “كلما حدقت أطول إلى الخلف، استطعت النظر أبعد إلى الأمام. وهذا ليس رأيا سياسيا أو فلسفيا، لأن أي طبيب عيون يمكنه أن يؤكد لك ذلك”. إنها مقولة آثرنا استهلال هذه المقالة بها لما ارتأينا أنها تنسجم تماما مع الواقع السنغالي الراهن، ولما يمكن أيضا أن نستطلع من خلالها المستقبل السياسي القريب أو نرسم بدقة خارطة سياسية لما ستؤول إليه الأحداث إلى ما قبل وبعد الانتخابات الرئاسية القادمة المزمع عقدها في 25 فبراير 2024م.
لا يعزب عن بال كل متابع للأوضاع السياسية في السنغال أن هذه الدولة تجد نفسها اليوم في مفترق طرق، وليس أمامها إلا خياران: إما خيار الحرية، والعدل، والأمل، والمسؤولية، والشرف والمجد، والكرامة، الخ، أو خيار الانتكاس والتقهقر، والتدهور والاستبداد، والحضيض، الخ. الأمر الذي يستدعي مسؤولية الجميع أمام التاريخ، ويستدعي أكثر نظرا إلى الأحداث الموجعة الجارية في الوقت الراهن مسؤولية المجتمع المدني، وبشكل خاص المرجعيات الدينية في البلاد التي كانت لها في السابق أدوار ريادية في استتباب الأمن والسلم والاستقرار. إن الفساد قد عم البلاد من جميع الأصعدة، وحق لكل سنغالي غيور أن نجأر قائلا: قد بلغ السيل الزبى. بالفعل، لقد آن لعقلاء البلاد، إن وُجِدوا، أن يضعوا حدا نهائيا لكل هذه الانتهاكات والانتكاسات التي تزاولها حكومة ماكي سال. إن للصمت أحيانا نكهة المؤامرة، وللكلام عفونة النفاق أحيانا كثيرا.
إن جرائم الحكومة ليست وليدة اليوم، ففي الأيام المبكرة لما سطع نجم الزعيم السياسي صاحب الكَارِزْم الخلاب السيد عثمان سونكو انبرت حكومة ماكي سال لمطاردته في كل واد وناد بكل ما أوتيت من قوة وحيلة بغية الإطاحة به سياسيا وتدمير شخصيته أخلاقيا، ولم تتوان لحظة ما في نصب مكائن متتابعة ضده، فكان ما تمخض عنه هو أن أكثر المجد الذي ناله الرجل كان من صنع منافسيه السياسيين، الذين، من غير وعي، عبدوا له الطريق ونثروا فيها الورود والزهور. ومن هذا المنطلق نقول: إن كان صحيحا أن الابتلاء سُنَّةٌ لا تتخلف في حياة الأكابر والأبطال والمصلحين الاجتماعيين ومن على شاكلتهم، فمن الحكمة أيضا أن نؤمن “أن شراسة الأعداء قد تصنع فراسة النبلاء”.
في الواقع، إن ما جرى في العقد الزمني السالف، أي منذ نشوء حزب باستيف في عام 2014م إلى اللحظة الآنية من انتهاكات واعتداءات قانونية شرسة ضد الزعيم سونكو وأنصاره وحزبه، بل وضد الشعب السنغالي بأسره: اعتقالات تعسفية، جرائم قتل، وتعذيب وتنكيل في السجون، فضائح سياسية، اختلاسات لأموال الدولة، كل ذلك يكفي لدق ناقوس الخطر، لكن الأنكى والأمر هو أن الساحة السياسية ستشهد دون أدنى شك أبشع منها من جرائم في حق المواطنين من زاوية، وفي حق المترشحين في السباق الرئاسي في فبراير القادم من زاوية أخرى. إنها حكومة عارية من اللباقة والأناقة السياسية، فهي صماء، عمياء ومعتوهة، لا حشمة ولا حياء لها، بل لا دم لها. ومن المفيد أن نشير إلى أن الزوبعة الحالية التي تطل على الانتخابات الرئاسية المقبلة حول مشكلة رعاية المترشحين (Parrainage) ليست إلا ومضةً أو عَيِّنَةً نَموذجيةً مما سترتكبه هذه الحكومة الجائرة والمستبدة في الأيام القادمة. فمن الخيال أن يعتقد سنغالي واحدٌ واعٍ أن هذه الحكومة مستعدة لتنظيم انتخابات نزيهة بحيث يتم تسليم الحكم بطريقة سلمية للفائز فيها، بل إن الموت والجحيم أفضل لديها من تسليم الحكم لأحد منافسيها. ولو قدر الله أن حصل ذلك رغما عنها، فإن ذلك سيكون بدون شك قَذًى فِي عَيْنِ ماكي سال وشَجًا في حَلْقِه إلى أن يُحشر ضُحًى. لكل ذلك يجب على أبناء الشعب السنغالي الذين يتوقون إلى التغيير أن يعوا جيدا أن المرحلة القادمة من العراك السياسي ستكون أوعر بكثير من سابقاتها، وذلك من نواح شتى. فإن السياقات الزمنية والمكانية علمتنا أنها تخضع دوما لأحكامها سلبا وإيجابا، تلك سنة الله في الكون ولن تجد لسنة الله تبديلا. إن ماكي وعصابته تحالفوا مع الشيطان ضد بلدهم رغبة في إبقاء الحكم في قبضتهم، فيظل الوضع كما هو أو أسوأ، فيستمرون في امتصاص دماء الشعب والعيش على حسابه باستنزاف موارده. وجدير بالذكر أن هذه العصابة الحاكمة تؤطر ليل نهار في كل مساعيها لخلق نظام دكتاتوري متين غير قابل للاستئصال. فإحساسها بالعجز التام أمام شريحة كبيرة من هذا الشعب الأبيّ، التي لم ترض ولن ترضى بالتخلي عن زعيم التغيير عثمان سونكو، رغم كونه الآن وراء القضبان، جعلها كعادتها تتوسل بالكيد والمؤامرة مع القضاة والإداريين للوصول إلى مبتغاها وهو الحيلولة دون ترشح زعيم باستيف. ولن تجد وصفا أدق في التعبير عن حال هذه الحكومة الغاشمة مما ذكره العلامة عبد الرحمن الكواكبي، الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو قرن الاستعمار والاستبداد واستنزاف موارد الدول التي كانت ترزح تحت نير الغرب الامبريالي، الذي كان يرى في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»: “إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد”.

وبهذا تجد أن حكومة هذا الرئيس النحس أحدثت شرخا كبير في الكيان الاجتماعي السنغالي وشانت صورة السنغاليين وبلدهم، ولطخها بحيث تعجز مياه البحر أن تغسلها وتعود بها كما كانت في السابق. كما أن “الصورة الوردية للديمقراطية السنغالية، التي طالما قُدمت للعالم، على أنها الاستثناء الزاهي في محيط إفريقي حافل بالانقلابات والانتكاسات الديمقراطية، وأزمات حقوق الإنسان والصراعات العرقية والقبلية”، قد أصابها اليوم الذبول والوهن، بل لم يبق منها إلا أحاديث الركبان وذكريات الماضي.
وإذا أردنا أن نحلل تحليلا علميا ونتعرف إثر هذا التحليل والتمحيص على مكمن فشل هذه الحكومة ومكمن دائها العضال فما علينا إلا أن نعود إلى كتب “تطوير الذات والارتقاء بالنفس الإنسانية” لنستقي منها بعض العناصر التي قد تساعدنا بكل تأكيد على فهم حالها وتصرفاتها. إنها حكومة “انتقامية غضبية” لأن القاعدة التأسيسية لتصرفاتها هي الكراهية والحنق بحيث لا تعي العواقب الخطيرة التي تتمخض عنها. كما أن الملاحظ هو أنها لا تتعلم من أخطائها المتكررة، لقد تراكمت الأخطاء في صفها دون أن تأخذ منها العبر والدروس. أضف إلى ذلك أنها حكومة غير فاهمة، بل غير واعية بشخصيتها وكيانها وذاتها بوصفها السلطة العليا وحامية للقانون والدستور. إنها حكومة لا تسعى بشكل متعقل إلى تحسين صورتها في كبواتها وتعثراتها أمام الشعب والعالم والتاريخ، بل تسعى فقط إلى نيل مبتغاها والوصول إلى هدفها بأية طريقة ممكنة مهما كلفها الثمن دون خجل ولا حياء ولا حشمة منها. إنها حكومة متشتة لا تسيطر على أجندتها، كما أن ليست لديها خلفية عن “الزمن السياسي” لضبط الأمور والأحداث، بل تتصرف حسب ردود أفعال خصومها. وأخيرا، إنها حكومة لا تعي نقاط ضعفها من قوتها، إنما هي رهن الأحداث وأسير خصومها السياسيين والشعب الأبيّ معا. وكما يقول خبراء هذا الفن، نعني “فن تطوير الذات”: “إن فكرة جيدة واحدة كفيلة بتغيير حياة شخص إلى الأفضل والارتقاء بها”. وبما أن هذه الحكومة ليست في جعبتها فكرة جيدة، كل ما لديها الكيد والمؤامرة والدسائس، فتصدق عليها: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) [الأعراف: 58]. كل هذه الدروس الراقية توحي بشكل جلي أننا أمام حكومة فاشلة عاجزة تستعمل القوة التي وضعتها الدولة في أيديها لاضطهاد الشعب وامتصاص دمائه، هذا الشعب الذي هو مصدر قوتها وشرعيتها.
وإذا كان الوضع كما وصفنا، ونعتقده كذلك، فهل من المتعقل أن يلجأ ماكي سال وعصابته كأشخاص ديمقراطيين محترمين إلى تنظيم انتخابات رئاسية نزيهة وعادلة، … لا جرم أن ذلك ضرب من الخيال ولون من التخمين. والعجب العجاب يكمن أحيانا في تصرف بعض الباستيفيين، بل وبعض أعيانهم مُلَمِّحِين أن احرازهم الفوز أمر ممكن دون حراك ومواجهة ومقاومة وقيام الشعب يدا واحدة لمنع كل أصناف التزوير وفبركة النتائج!!! إن هذا الون من التفكير في هذه الوقت العصيب لهو عين السذاجة والجهل المركب بحقيقة هذه الحكومة وبمطامعها المبيتة. لقد انتقى النظام من بين المترشحين من سيخوضون السباق الرئاسي في 25 فبراير 2024م، وانتقى كذلك من سيعترفون بفوز مرشحه حين تُعلَن النتائج المفبركة المُبيَّتة. ولم يعد سرا مخبوءً عن أحد اليوم أننا لسنا مُقبلين على انتخابات، بل على سيناريو معدة، وفضيحة ديمقراطية، ومهزلة تاريخية، لا شك ستبقى وصمة عار متزايدة على ضميرنا الجماعي وعلى جبين التاريخ إلى الأبد. وقد كرر الزعيم عثمان سونكو مرارا أن ماكي سال لا يعرف إلا المواجهة. شئنا أو أبينا للإطاحة بنظامه المستبد لا مفر من المواجهة. إن موعدنا الصبح، أليس الصبح بقريب. ولقد أعذر من أنذر.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici