اقتصاد_أفريقيا: السنغال بين عبْء الديون والعجز المالي: هل ستُقَوِّم الإصلاحات ما أفسدته السياسات المالية؟

في أكتوبر 2024م، قدمتُ ورقة بحثية في مؤتمر رفيع المستوى في أديس أبابا، عاصمة أثيوبيا، ثم نُشرت لاحقًا في مركز الجزيرة للدراسات؛ حيث ناقشتِ الورقة كيف أصبحت الديون العامة (السيادية) عاملاً مهما في تفاقم هشاشة بعض الدول الإفريقية، مقوضةً قدراتها على تحقيق الاستقرار السياسي، وتوفير الخدمات الأساسية، وضمان الاستدامة الاقتصادية.

فقد أظهرت الدراسةُ أنّ بعض الدول التي تعاني من نسب ديون مرتفعة إلى الناتج المحلي الإجمالي، مع سوء الإدارة المالية وغياب الشفافية، فتصبح أكثر عرضة للانهيار الاقتصادي والاجتماعي. وليس حجم الدين وحده هو المشكلة؛ بل كيفية إدارته، إذْ يمكِنُ لدولة ذات مديونية مرتفعة أنْ تحافظ على استقرارها إذا امتلكت حَوْكَمة مالية رشيدة، وقنوات تمويل مستدامة، وخطط استثمارية واضحة، كما هو الحال في بعض الدول الآسيوية.

في المقابل، يُظهر التاريخ أنّ التراكم غير المدروس للديون، دون استراتيجية تنموية واضحة، يؤدي إلى دورة مفرغة من الاقتراض لسد العجز، بدلًا من تحفيز الإنتاج وخلق القيمة الاقتصادية.

فالديون غير المستدامة، لا تُقيد الموازنات فقط؛ بل تعطل النمو، وتضع الدول في حالة اعتماد دائم على التمويل الخارجي، مع تعرضها المستمر لمخاطر التخلف عن السداد، وفقدان الثقة في الاقتصاد المحلي.

هذا السياق ينطبق تماماً على السنغال اليوم، التي كشفت تقارير محكمة المحاسبات السنغالية عن تجاوز الدين العام 99.67% من الناتج المحلي، مع عجز مالي بلغ 12.3%، متجاوزًا بكثير الأرقام المعلنة سابقًا.

هذه الأرقام ليست مجرد إحصائيات تقنية؛ بل إشارات إنذار تدل على اختلالات عميقة في الحوكمة المالية، مما يعيد إلى الواجهة السؤال الجوهري: كيف يمكن للسنغال أنْ تعيد هيكلة ديونها، وتحقق الاستقرار المالي، وتمنع تكرار هذه الأزمات مستقبلاً؟

🔹الأسباب الجوهرية للأزمة: بين سوء الإدارة والأنظمة المحاسبية غير الفعالة

سلّط التقرير الصادر عن محكمة المحاسبات السنغالية الضوءَ على الافتقار إلى محاسبة دقيقة للدين العام، والإنفاق غير المنضبط، ونقل الميزانيات بطرق غير شفافة. هذه الممارسات تثير تساؤلات حول قدرة الحكومة على إدارة التمويل العام بكفاءة. ويضاف إلى ذلك الاعتماد على الأنظمة النقدية (Cash-Based Accounting) بدلًا من المحاسبة على أساس الاستحقاق (Accrual Accounting)، مما أدى إلى فجوات خطيرة في التقييم الحقيقي للالتزامات المالية للدولة.

🔹انهيار ثقة المستثمرين وتعطل المشاريع التنموية كتداعيات للأزمة

تآكل ثقة المستثمرين هو أحد أخطر التداعيات، فعدم قدرة الحكومة على تقديم صورة دقيقة عن أوضاعها المالية يزيد من مخاطر التمويل الخارجي، ويفرض ضغوطًا على التصنيفات الائتمانية للبلاد. كما أنّ تعليق سحب التمويلات من صندوق النقد الدولي يشير إلى وجود أزمة سيولة قد تؤثر على تنفيذ المشاريع التحتية والتنموية، ما يعني تأخيراً في الإصلاحات الاقتصادية، وعرقلة النمو على المدى المتوسط.

🔹الإصلاحات المطلوبة

الخطوات التي أعلنها الحكومة السنغالية لاحتواء الأزمة، مثل: تحسين إدارة الديون، وتشديد الرقابة المالية هي إجراءات ضرورية؛ لكن لا بُدَّ من إصلاحات أعمق لضمان عدم تكرار هذه الأزمة. ومن أبرز هذه الإصلاحات، ما يلي:

✅تبني المحاسبة على أساس الاستحقاق لضمان تسجيل الديون والمصروفات بطريقة شفافة.

✅ تعزيز الرقابة المالية وتقليل الإنفاق غير المنتج عبر ضبط المديونية الحكومية.

✅ إعادة هيكلة الدين العام والتفاوض على شروط أفضل مع المقرضين الدوليين.

✅ تعزيز مشاركة القطاع الخاص في تمويل المشاريع الكبرى لتخفيف الضغط على المالية العامة.

✅ احتساب الموارد الطبيعية في الناتج المحلي، كما فعلت الجزائر، لخلق توازن في المؤشرات الاقتصادية.

🔹دروس من تجارب إفريقية أخرى

في المقابل، يبرز نهج بوركينا فاسو بقيادة إبراهيم تراوري الذي يراهن على التصنيع والسيادة الاقتصادية كأداة لتقليل الاعتماد على التمويل الخارجي. هذا النموذج، رغم تحدياته الأمنية، يعكس توجهاً جديداً في إفريقيا نحو تقليل التبعية للمؤسسات المالية الدولية وتعزيز الاكتفاء الذاتي.

و من جهة أخرى، فإنّ نيجيريا تحاول الاستفادة من مواردها المعدنية غير المستغلة للحدّ من العجز التجاري وتعزيز الإيرادات المحلية، وهو درس يمكن للسنغال الاستفادة منه.

🔹 نحو إصلاحات جذرية

لا يمكن اختزال الأزمة المالية في السنغال في كونها مشكلة محاسبية أو خطأ في التقديرات المالية؛ بل هي اختبار حقيقي لقدرة النظام الاقتصادي على الصمود أمام الضغوط المالية المتزايدة. إنّ الأرقام الصادمة للدَّيْن العام والعجز المالي ليست مجرد خلل في التقارير؛ بل نتيجة لسوء الإدارة المالية، وضعف آليات الرقابة، وغياب التخطيط الاقتصادي المستدام.

وقد تُعِيد هذه الأزمة إلى الواجهة إشكالية الاعتماد المفرط على الديون الخارجية، مما يفرض على صناع القرار في السنغال الانتقال من سياسات مالية قصيرة المدى إلى إصلاحات هيكلية أعمق وأكثر شمولية.

ما تحتاجه السنغال ليس مجرد إجراءات طارئة لسد العجز؛ بل إعادة صياغة النموذج الاقتصادي ليقوم على الإنتاج المحلي، والاستثمار في القطاعات الاستراتيجية، وتعزيز الاستقلال المالي بدلًا من الاستمرار في دورة الاقتراض غير المنتج.

✍️ إنّ الخيار المطروح اليوم ليس مجرد تصحيح الحسابات المالية؛ بل إعادة رسم خريطة الاقتصاد السنغالي نحو مزيد من الاستدامة والاستقلالية.

🔹 خلاصة: بين الحاجة إلى إصلاحات مالية وهيكلة اقتصادية أعمق
أزمة الديون والعجز في السنغال ليست مجرد مشكلة محاسبية، بل اختبار حقيقي لمدى صلابة النظام الاقتصادي في ظل هشاشة الحوكمة المالية. تحتاج السنغال إلى إصلاحات هيكلية حقيقية في إدارة مواردها المالية، وعدم الاكتفاء بحلول ترقيعية تزيد الوضع تعقيدًا. كما أن الأزمة تسلط الضوء على ضرورة إعادة النظر في النماذج الاقتصادية الإفريقية والبحث عن حلول تقوم على الإنتاج والاستقلال الاقتصادي بدلًا من الاعتماد على الاقتراض الخارجي.

✍️ الخيار اليوم ليس مجرد تصحيح حسابات الميزانية؛ بل إعادة صياغة النموذج الاقتصادي السنغالي؛ ليصبح أكثر استدامة واستقلالية.

محمد زكريا
23 فبراير 2025م
سكاريا، تركيا


السنغال #أزمةالديون #العجزالمالي #الاقتصادالإفريقي #الاستقلالالاقتصادي #الإصلاحالمالي #حوكمةالماليةالعامة #إدارةالديون #التنميةالمستدامة #المحاسبةالحكومية #ثقةالمستثمرين #صندوقالنقدالدولي #المواردالطبيعية #الإنتاجالاقتصادي #القطاعالخاص #النموالاقتصادي #السيادةالمالية #النموذجالإفريقي #المؤسساتالمالية @followers