حياة الشيخ إبراهيم فاط امباكي وٱثاره.

إنه لمن دواعي البهجة والسرور تسليط ضوء حول سيرة من سيرة السادة الصوفية العظماء، الذين جاهدوا في الله حقَّ جِهاده، وصدقوا ما عاهدوا الله عليهم، لا سيما أولئك الذين لم يبيعوا النور بالدجى، ولم يخلفوا الوعد ولم يخونوا الأمانة، أي الرعيل الأول الذين كانوا مؤنسا وعضدًا للشيخ الخديم -رضوان الله عليهم-، الذين وقفوا معه في السراء والضراء وقت العسر واليسر غدوا وعشيا بكرة وأصيلًا، ومن المألوف زمنيًّا وتاريخيًّا أن لكل سادة من أولئك السادة التى جازفوا أرواحهم لرفعة راية الدين وحمايتها من التلوث البدعي، يوم يذكر ويتدارس فيه حياتها الكريمة، وها نحن اليوم في أهبة الاستعداد لذكرى باسل من أولئك البواسل وبطل من أولئك الأبطال، ألا وهو: الشيخ إبراهيم فاط المشهور ب: مام جِيرْنُ

و بُرُومْ دار المُعطي، وما أدراك من هو بُرُوم دارُ!

كتب / بقلَمِ/ عبد الأحد داوود نيانغ

مولده.

يحكي لنا التاريخ بأن هذا المغوار وُلِدَ في منطقة سَالُمْ في قرية تسمى بُرُوخَانْ سنةَ 1862 م، ولقد تفرع من أصلين شريفين تُعجز الأقلام عن ذكر أوصافهما الكريمة ونسبهما الشريفة، أما والده فهو الوليُّ الصَّالح العالم الرَّبَّانِيُّ البارُّ التَّقِيُّ الشيخ مام مور أنت سال امباكي، وأمُّه هي الصالحة النَّقية المعروفة بالصلاح والعبادة السيدة فاطمة إِسَهْ جوب.

تعليمه.

ومن عادة أهل أرضنا المعشوقة في الأزمنة السالفة، -وهناك من يحتفظون تلك العادة في الزمان المعاصر- أن الولَد إذا بلغ سن التعلم أوَّل ما يقوم به والده أو وكيل أمره هو إرساله إلى الكُتُّاب ليتعلَّم القرءان الكريم أولا، حتى حفظ وصحَّح وجوّدَ، وبعد ذلك ينصرف لتعلُّم العلوم الشرعية واللغوية والكلامية وغيرها، وفي هذا المضمار سار الشيخ إبراهيم فاط، قيلَ بأنه لمَّا بلغَ سِنَّ التَّعلُّم تولى تدريسه أخوه الكبير الذي كان يُكنُّ له محبَّةً وشفقةً ويولِي له اهتمامًا بالِغًا مُذْ رأت عيناه النورَ، الشيخ الخديم -رضوان الله عليهما-، وهكذا عكفَ على عرصةِ أخيه حتى حفِظَ القُرءان، وبَعد الحفظِ أغرق من بحر أخيه الوافر علومًا شتىَّ إلى أن صَارَ بحرًا لا يُجَارَى وحِبرًا لا يُبارى، وعلى هذا الدرب استمرَّ حتى صار بحرًا يمُوجُ وفحلًا يأتي إليه القاصي والداني والراحل والقاطن لإدلاء دلاءهم في مياهه الوافرة العذبة، يقول الشيخ إبراهيم جوب المشعري في غزارة علمه وعديم نظيره:
إن عُدَّ للعلما والكرما نُظرا
فما تُعدُّ له من بينهم نُظرَا
إذا تكلَّم أبدى للورى دررًا
وإن بدا وجهه أبدى لهم قمرا
هذا، لأن الشيخ المربي لا بدَّ عليه أن يقدِّم العلْمَ الصحيح قبل انشغاله بالتربية إذا أرادَ السير مع أتباعه في طريق معصوم من الهفوات والكدرات.
وفيه هذا الصدد يقول الإمام الشعرانِيُّ -رضيَ الله عنه-: { قد أجمع أشياخ الطرق على أنه لا يجوز لأحدٍ التَّجرُّد لتربيةِ المريدين إلاَّ بعدَ تبحُّره في علم الشريعة}
لأن تقديم العلم على التربية شرط أساسِيُُّ عند القَومِ، يقول الشيخ الخديم -كان له بكرمه الباقي القديم-.
منها التَّبَحُّر في علمِ الشَّريعةِ معْ
علمِ الحقيقةِ فِي بدءٍ وغاياتِ
إذ ارتياضُُ مع الإٍرشاد قبلها
من جالباتِ غُرورٍ معْ شَقَاواتِ

ويقول -:أيضًا- في هذا الصدد:
إذ كلّ عاملٍ بلَا علمٍ يُرى
فسعيُه مثل هباءٍ نثِرا

زهده والتزامه بتعاليم الشرعية.

كان الشيخ إبراهيم آية ومثلا في الزهد والورع والتقوى، لقد فض الدُّنيا يد الإدبار في وقتٍ مبكِّرٍ واشتغل بعبادة رب الناس مدبرًا عمَّا في النَّاس وما في أيدي الناس، وما في الدُّنيا من الملذات والشهوات، لأن الزهد والورع يعدَّان من الأصول التي تنفي الرعونات عند السادة الصوفية يقول الشيخ الخديم -رضوان الله عليه- في تِعداد تلك الأصول:
والزُّهدُ في كلِّ فانٍ بعده ورعُُ
معَ التَّوَكُّلِ صبرُُ كلَّ سَاعَاتِ
وخيرُ دليل على التزامه بمبادئ الشرعية أنه كان لا يقبل أن يدخل أحد في مسجده من دونِ وضوء، علاوة على ذلك أنه كان يأمر الأتباع بترك كل عمل يقومون به إذا آن أوان الصَّلاة، كما كان يفعله أخوه الكبير، وِراثةُ الحالِ أَهمُّ من الْمالِ!

ويسألونك عن صفاته.

وإذا سُئِلتَ عن أخلاق وأوصاف الشيخ إبراهيم أجبْ -ولا حرج- كما أجابتْ سيِّدتنا عائشة -رضي الله عنها- حين سئلتْ عن أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلَّمَ-، أجابتْ قائِلةً: { كانَ خُلقُه القُرءان}، فكيف لا والرسول -صلى الله عليه وسلَّمَ-، هو خير أُسوةٍ للمسلمين، ولقد حثَّنَا الخالق -عزَّ وجلَّ-، باقتدائه في أقواله وأفعاله وسلوكياته يقول الله -تبارك وتعالى-: { لقد كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسوةُُ حسنَةُُ …}،
ولقد كان الشيخ إبراهيم يخجل المطر في الجود سواء كان في علمه أو في ماله، يقول الشيخ إبراهيم جوب المشعري -رضوان الله عليه-:
مَنْ زَارَ شَيْخِيَ -إِبْرَاهِيمَ فَاطِ- يَرَا
مِنَ الْمَكَارِمِ مَالاَ فِي الْبِلَادِ يُرَى
مَنْ حَلَّ ضَيْفًا لَدَيْهِ نَالَ مَطْلَبَهُ
مِنْ كُلِّ مَا يَشْتَهِي مِنْ طَيِّبَاتِ قِرَى
وَمَنْ أَتَاهُ لِعِلْمٍ أوْ طِلَابِ هُدًى
أَوْ لِلنَّدَى يَلْقَ بَحْرًا صَارَ مُزْدَخِرَا
لقد كان دائم الغدوِّ والرَّواح في دفع الأضرار وقضاء الحوائج وإعلاء كلمة الله عليا وغيرها مما هو نفعُُ للعباد والمسلمين، يقول الأديب اللوذعِيُّ الشيخ إبراهيم جوب المشعريُّ:
فلستَ تَلْقَاهُ إلاَّ دافِعًا ضَرَرًا
أَوْ قَاضِيًا وطرًا أَوْ تَالِيًا سُوَرًا
أَوْ مُحْيِيًا سُنَنًا أَوْ مُعْطِيًا مِنَنًا
أَوْ مُعْلِيًا مُكَنًا أَوْ هَادِيًا زُمَرَا
أَوْ نَاطِقًا حِكَمًا أَوْ جَاليًا ظُلُمًا
أَوْ شَافِيًا سَقَمًا أَوْ مُبْدِيًا بُشَرَا

أمَّا الشَّجاعة والجُرأة فهما دأبه وديدنه، لقد كان لا يهاب ولا يخاف إلا ربه -عزَّ وجَلَّ-، كما كان أملس وأثبت في موقفه من الجبال الراسيات، يقول الشيخ إبراهيم جوب في شجاعته:
وَيُخْجِلُ اللَّيثَ يومَ البأْسِ مُنتَصِرًا
وَيُخْجِلُ الْغَيثَ يَومَ الْجُودِ مُبْتَدِرَا
كان الشيخ إبراهيم من ألسنة الصدق وأقلام الحق وسيوف الدعوة، التي يذود الله بها عن دينه في مواجهة الكائدين للإسلام والمفترين عليه.

منزلته عند الشيخ الخديم -رضي الله عليهما-.

كانت وشائج الحبِّ والشفقة والرحمة والاهتمام تربط بين الشيخ الخديم وأخيه الصغير، وكان للشيخ إبراهيم منزلة تفوق الوصف عندَ أخيه وشيخه، يُحكي بأن العالِمَ البوليَّ هو الذي كتب له سبع المنجيات لمَّا ولد، واستنادًا لمصادرَ موثوقة، قيل بأن الشيخ الخديم لما تُوُفِّيَ والده -رحمهُ الله- تنازل عن حقه في الميراث واكتفى بأمرين هما: المصحف وأخوه الشيخ إبراهيم،ولقد تربَّى بُرُومْ دَارُ، في حجر أخيه الكبير وأغرز منه العلمَ والعمل والشجاعة والكرم، وأعدَّه أفضل اعداد ليكون في أشدِّ أهبةٍ لمواجهة النكبات والعقبات الزمنية الحاضرة والآتية وعلَّمه معنى المسؤولية وكيفية التحمل ومعني الإدارة وكيفيتها كلُّ هذا ليقوم عنده مقام هارون من أخيه موسى -عليهما السلام كما في قوله تعالى: { سَنَشُدُّ عضدكَ بأخيكَ }.
وممَّا يشهد شجاعته وحنكته في الإدارة أن الشيخ المجدد أولاه الأهل والعيال وقت ارتحاله إلى الغيبة البحرية، ولقد أبلى الشيخ بلاء حسنًا ولعب دورًا هامًّا في تعليم العيال وتربيتهم وتوجيههم، يقول الشيخ إبراهيم جوب -رضيَ الله عنه-:
حَسْبُ الْمُكَرَّمِ ( إِبْرَاهيمُ فَاطِ ) فَتًى
رَامَ الْخَدِيمَ فقدْ أَحْيَا لَهُ أثَرَا
فِي ( امْبَكِ بَارِ ) لَنَا بدَتْ خِلَافَتُهُ
لليومِ والحقَّ يَرضَى قلبُ منْ طهُرَا
يقول العالِم الموريتاني المؤرخ الكبير والأديب اللبق في حق الشيخ إبراهيم تِبيانًا على موقفه الجليل وخدمته العظيمة واهتمامه بتربية المريدين عامة وأبناء الشيخ الخديم خاصة سنين غيبته البحرية، محمد عبد الله العلوي:
رَبَّى المُريدينَ وأَقْرَأَ البَنِينَ
النُّجَبَاء الأَذكيَا تلك السنين

إذنُه لهُ -رضيَ اللهُ عنهمَا- في بناء(دَار المُعطي).

ومن عادة المريدية تأسيس قرى للتربية والتعليم، والشيخ المجدد هو من سنَّ وجسَّدَ هذه السُّنَّةَ الحسنة، أعنِى هو أوَّلُ من قام بِبِنَاء قريةٍ لِعبادة الله الواحد الأحد والتربية والتعليم والخدمة، وتبعه أتباعه في ذلك وكان يأمر بعض المريدين بتأسيس قرية ويعطيهم الاسم الذي يحمله تلك القرية ، ومن أولئك الذين وفَّقهم الله أن أعطاهم العَالِمُ الْبَوَلِيُّ إذن تأسيس قرية والاسم الذي يُسمَّى بِها الشيخ إبراهيم فاطِ، لقد أمره صديقه وأخوه الكبير بإنشاء قرية دار المُعطِى ليكون مهدًا للعلم والمعرفة ومقرًّا للاجئين والطالبين،
يقول الشيخ الخديم في إحدى توصياته:
اجتهدوا ياقوم في الطاعات
بالعلم والعملِ في الخيراتِ
ولتكون -أيضًا- موضِعًا لكسب الحلال واكتساب الرزق، يقول الشيخ أحمد بمب حثًّا على كسب الحلال وطلبه:
فطلب الحلال فرضُُ ينتمِي
لكلِّ مُسلمٍ بغيرِ وَهَمِ
لأن كسب الحلال ضروريُُّ عند المُريد السَّالك الذي يُريد الوصول، لأن مخالطة أكل الحرام مع العبادة لا تسمن ولا تغني من جوعٍ عند السادة ، يقول الشيخ المجدد.
لا ينفعُ العلمُ ولا العبادهْ
بأكلِ للحَرَام عندَ السَّادهْ
ولقد بُنِيتْ هذه القرية سنةَ 1912م.
دونكم رسالة الإذن الصادر من خادم الرسول إلى عضده الأيمن.
{لبِسم الله الرحمان الرَّحيم وبَعدَ الْبَسملةِ وما يَلِيقُ منَ التَّحِيَّاتِ المُبَشَّرَاتِ، فقدْ أُذِنَ لكَ في بِنَاءِ تلكَ الدَّار وفي الْحَفْرِ، واسمُهَا: (( دارُ الْمُعطِي)). وعليكُم سَلَامُُ يُبَشِّرُكمْ حيْثُ كُنتُمْ.

وأخيرًا، إن هذه السطور الماثلة رشف من بحر حياة الشيخ إبراهيم فَاط المحتد الشريف وأعماله الجليلة ومواقفه النبيلة، فحياته الميمونة الحافلة بالدراسات والإنجازات لا تُعمُّ بالمجلدات فكيف بهذه السطور المتواضعة، لكن نية المؤمن أبلغ من عمله، ولكل امرئ ما نوى.
وفي النهاية نسأل الله السلامة والعافية، وأن يجعلنا من الذين يقتفون آثار السلف ويكتبونها ويقتدون بهم، وأن يرزقنا حسن الختام عند الممات وغدًا يوم القيامْ.

وكلُّ من نظرَ فليدعُ لنَا
لِخيرِ ما يُدعَى لعبدٍ أحسنا

.
حرر في جخاو سينْ مساء الجمعة ١٤ من شهر شعبان ، الموافق 18/03/2022م.