مقال / والعيد في الغربة مأتم غير رسمي

0
430

✍️جبرئيل عائشة لي السماوي

وفي العيد يدفع المغترب نفسه إلى كبد السّماء، باتجاه أبعد نقطة يدركها البصر، آملا أن يرى في مرآة السحاب وطنه، أرضه الأم، ذاكرة صباه، ابتسامة أمّه الرنّانة. لعل ذلك يكون ترياقا للوجع الصارخ الذي يختزل أحشاءه.
في صباح العيد يٌخبّئ الضاربون في أرض الغربة كلّ ما يملكونه، خلف صناديق النسيان، إلا الشوق والحنين وتذكار ماضي الأعياد في الوطن .
المغترب يزور متحف الذكريات الذي في مخيلته، وهو فوق سريره المكتظّ بأحلام ضائعة، وآمال حديثة الولادة. فيتجوّل في أرجائه، وهو مدفوع بالاشتياق، لرؤية ما تخفيه ثناياه من حكايات الصّبا وآثار الأعياد القديمة وخرائط الابتسامات والأفراح.

يبدو أنّ كل شيء واقعي إلا الحياة
في الصراع مع هجمات الغربة المرتدة ، ثمّة ما يخدش القناعات، حتى أنّ المغترب قد يخترع لنفسه انتصارات مصطنعة، حتى يتخلص من صور اخفاقاته ومعاناته في قبضة الأسى والتّيه.
في صباح العيد يهشم الأنين أضلعنا نحن الذين يكتبنا الوطن في قائمة الغياب يوم العيد. فيُذكِّرنا الألم المتضاعف ليل نهار بما يُضيّعه منا مرور الزمان. الاغتراب يا عزيزي ! صعود إلى أعماق هذا الكون الفسيح، لفهم فلسفة الحياة، كما شرحها السيّد إيليا أبي الماضي، ورسمها على قافية المهجر. الاغتراب عبارة عن انغماسٍ في أرض الله لقراءة الذات والواقع، والجريء خلف أحلامك وطموحاتك للامساك بزمامها وناصيتها… فهي رحلة غامضة إلى أقصى عالم التّجارب والمغامرات، والبحث عن معنى الحياة. فلا يمكن أن نعانق في هذه الرحلة المفعمة بالعنت والانكسار، أفراح العيد وتجلّياته الخضراء .

في أمسيات العيد تغنّي الوحشةٌ لليأس، فتستمع إليها أنت رغما عنك. ليس لأنك اخترت الاستماع، وإنما أنت جزء من هذه الأغنية الحزينة. عندما ندرك ألاّ أحد يرغب في تقبيلنا ليلة العيد، ننام مع دموعنا سرّا، أو نهرب إلى مكان دافئ لاختراع صوت النّاي ونتلذّذ به. ثمّة أغنيات وسنفونيات جارحة لكن تبقى هي مصدرنا الوحيد لتعاطي السعادة…
في الغربة تنهار بسبب أثقال الحنين، تتبعثر وتشعر ألاّ شيء يستطيع لملمة شتاتك، سوى الجلوس خلف لوحة المفاتيح، للدردشة مع صديق أو زميلة. أو كتابة فقرة أو رسم قصيدة باكية. .
العيد في الغربة أن يحوم الناس حول مائدة الطعام وأنت تتجرّع مرارة كأس النوستالجيا. أن يبتسم الجميع بجانب أمّهاتهم، وأنت تحاول اخفاء الدموع خلف حروفك الحزينة، أن تتصّنع الضّحكات السمجة وفي داخلك ألف قصة بٌكاء ووجع.

كل عام ونحن هنا. كلّ عام والانسان بخير. كل عام والأرض حبلى بالجمال والجلال رغم الشرّ الذي يزرعه الانسان في أحضانها البريئة. كل عام ونحن نقترب إلى التلال الطاهرة النقيّة لأجل المصالحة مع الله عزّ وجلّ، للانفلات من ذواتنا الخيالية إلى ذواتنا الحقيقية، كي نعبده عبادة حبّ وعشق، لا عبادة عٌمي ومصلحة. كلّ عام وقلوبنا واجفة متضرّعة تشتنشق الحياة والمعنى من القرآن الكريم، هذا الكتاب الذي يحمل في طياته الشريفة، المشروع الأمثل لحياة الانسان الحياة المثلى.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici