مقال / إعادة بناء الإنسان.

0
205

بقلم الباحث محمد جميل اندوي.

لقد أثبت استقراءُ الواقع كما أثبت قراءةُ التاريخ أن من المأساة في تاريخ البشرية الطويل، و الذي كان ينتظر هذه الأمة؛ لتكون خير أمة أخرجت للناس، أن تراها تحطّ أسفل الدركات ، وتزجّ بها الخسّة والدناءة في حضيضها، وترتكب من سفاسف الأمور ما يخجل الصلحاءُ التفوّهَ به ولو في أحلامهم، والإنسان بصفته الكائن الوحيد الذي يمتلك جميع الإمكانيات المادية والمعنوية؛ لبسط سيطرته على هذا الوجود بأسره، ويمدّ رقاب الاستحواذ على السطوح وفي كل الأزقة والأروقة، وتجوب أساطيلُ أفكاره مختلفَ الأماكن والمناطق، ويُنير بضميره العقولَ المظلمة، والقلوب الضالّةَ، ويرفل على عرش الخلافة التي خُلق من أجله، يتحمّل بشكل أو بآخر مسؤولية كل همس أو لمس يحدث على أديم الأرض، التي تضمّه برحابها الفيحاء، فيتحتّم عليه إضاءة الشموع لا سبّ الظلام، وإماطة الأذى عن الطريق، لا لعن من وضعه فيه، ولكي يلعب دّوره في هذا الوجود بأكمل الوجوه، وأتمّ الصّور، ويكون على قدر المسؤولية التي أنيط على عاتقه، يجب عليه أن يضاعف الاهتمام والعناية على جميع أقطار ذاته، بل على كل شبر منه، علما بأن لكلّ قفل محكم مفتاحا معيّنا، ومهما حاولتَ بغيره كانت محاولتك عبثا، لا فائدة منه ولا طائل تحته، وهو بذلك مزيج من جوانبَ ثلاثة وهي: الجانب المادي، و الجانب العقلي، و الجانب الروحي، لا تقبل التجزئة والانفكاك، فالعلاقة بينها علاقة تكامل وتضامن، كعلاقة الأعمى بعصاه لا يمشي بدونها، ولا تمشي بدونه.
فالعناية التي أولتْها السماءُ بالإنسان كفيلة للدلالة على مدى أهمية هذا الكائن الناطق، وضرورة تطويره لنفسه من جوانبه الثلاثة، المادي ، والعقلي، والروحي، ولا براح من أنّ شخصية الفرد هي مجموعة من الصفات البشريّة الموروثة والمكتسبة من التفاعلات الاجتماعيّة والبيئية المختلفة، وتشمل الصفات البدنيّة و النفسيّة، ومجموعة العادات، والتقاليد، ومنظومة القيم التي تحكم الإنسان، أو تسيطر على تحرّكاته، وليبنيَ الإنسان في نفسه شخصيّة مسلمة قويّة كالبنيان المرصوص، يعلو بنفسه إلى الأعلى، ويتحرّر من قيود الطين والحمإ المسنون، لا بدّ أن يتشبّث بالإسلام عقيدةً ونظامَ حياة، فهو حين يبلغ مداه، ويشرق على القلب سناه، ويخطّ في أعماق النفوس مجراه، وتتوافى في الجوارح أخيلتُه، فإن آثاره تنعكس بشكل مباشر على شخصية الفرد؛ ليصنع منه مَلَكا بهيئة إنسان، أو أبعد من ذلك، فالإسلام أكبر من أن ينحصر بين جدران المسجد الأربعة ، خامسها سقف، وسادسها بلاط، أو يتقيّدَ بوعاء زمنيّ و مكانيٌ محدديْن ، فهو خطة حياةٍ تنمو صاعدة بجذورها، ونازلة بفروعها، يهدف إلى بناء الإنسان إلى أدقّ تفاصيله، وأهون تصرّفاته، لا هرما يسجد ويركع وكلها خواء خلقيّ و روحيّ مزمنين، فهذا مرمى الغرب الذي نجح في جعل الإنسان يحلُق في السّماء كالطّير ، أو يقطع البحر كالحوت، وأخفق في جعله إنسانا يمشي على الأرض، يُجيد معاملة بني جلدته، أمّا الإسلام فهي شجرة مثمرة يانعة إن رميتَها أعطتْك ثمرة، و مشروع يتبنّاة الإنسان فيُنير دربَه، ويُقوّم عوجَه، ويُصلح فسادَه، ويُرشده من المهد إلى اللحد، ويُنبت فيه من الأخلاق الطيّبة والسّجايا الحسنة ماللّه به عليم ، يقول الشاعر:
إذا أصِيب الناس في أخلاقهمُ
فأقم لهم مأتما و عويلا
وقال عليه الصّلاة والسّلام: (بُعثتُ لأتمّم مكارم الأخلاق) و طبقا لهذا الموروث النّبويّ فالإسلام جعل الأخلاقَ من الأساسيات لا من الثّانويّات، من الأولويّات لا من الفرعيّات، يُعلّمك في الإنسان أن يمارس الرياضة ويُملئ جلدته من كل أقطارها ونواحيها، ويبسط النعمة من أطرافه، وإن كاد إهابُه ينشق سمنا وكدنة، بدون إسراف أو تبذير، فإن ذلك حاجة جانبه الماديّ شريطة ألّا يهدم نظامَه الصحيَّ و البدنيَّ، وأن لا يتنافى مع التّوصيات الطبيّة والصّحيّة، كما عليه أن يُطوّر جانبه العقليَّ بإدمان القراءة والمطالعة، والتّعمق في البحث والتفكير، فهذا قوت عقله، أمّا جانبه الرّوحى يتغذى بأنواع جمّة من العبادات، تجلّ عن الذكر، وتتجاوز حدّ الإحصاء، هكذا يتعالج الإنسان في عيادة طبّية إسلامية، طبيبها النّبي محمد صلى الله عليه وسلم، و دواؤها القرآن، يخرج فيها بشهادة تسمى (الإيمان)، تؤهلها للوقوف أمام عقبات الزمان وتهاويله وقوفَ المرأة الحسناء أمام المصوّر، لا الدميمة التي تلوم مرآتها.

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici