دقيقة صمتٍ! في حضرةِ مصطفى المكتوم (حفظه الله ورعاه) .

0
913

كتب الباحث المؤرخ / الحاج مور نيانغ الجلوفي


بكل اختصار هو رمز النضال والمقاومة في هذا العصر الحديث، وبقية الأجداد الكرماء من سونجتَا كيتَا مرورا بأسكيا محمد والشيخ سليمان بال وكذلك الحاج عمر الفوتي تال وغيرهم رحمة الله تعالى عليهم أجمعين.
فهوَ نجلُ حكيم الأمة الاسلامية السنغالية الشيخ أحمد التجاني سي المكتوم رحمة الله عليه، ومتمِّمُ بغية الجد الخليفة أبوبكر سي من كان يخاطب الشبلَ بكلماتٍ روحانيةٍ « Xasiir kañ nga may demal tóol » تلك المقولة التي تضم سرا مكتوما في طياتِ الزمنِ، ولغزا لا يعلم تفسيره إلا الراسخون في العلم من معاصري الشيخ الخليفة رضي الله تعالى عنه. ومن نالَ من هؤلاء البشر حظَّ المشاهدة والمعاصرة حتى يرى حلم يوسف يتحقق أمام يد الملك وعباد فكرة الكواكب وكذلكَ أتباعُ محيي فلسفة امرأة العزيز في القطر السنغالي!

سَجَدَ الجَمِيْعُ أَمَامَهُ وَدُعَاهُمُ

شُكْرُ القَدِيْرِ لِمَا لَهُمْ أَجْزَاهُ

فَإِذَا بِيُوْسُفَ قَدْ تَذَكَّرَ حِلْمَهُ

وَالأَمْرُ جَاءَ مُطَابِقاً رُؤْيَاهُ

وَأَجَابَ يَا أَبَتِي وَرَبِّكَ إِنَّهُ

تَأْوِيْلُ مَا أَوْصَيْتَنِيْ إِخْفَاهُ

وَاللهُ أَخْرَجَنِيْ مِنَ السِّجْنِ وَقَدْ

ضَاقَ السَّجِيْنُ بِسِجْنِهِ وَدُجَاهُ

وَالحَمْدُ للهِ الّذِيْ أَعْطَاكُمُ

عِوَضَ البَدَاوَةِ خَيْرَ مَا أَعُطَاهُ

فَمن التوعية بدأ السيد مصطفى المكتوم حفظه الله ورعاهُ؛ وذلكَ بعدمَا درس سوسيولوجيا البيئة في منطقةِ كجور، فسبرهَا من الناحية الاجتماعية الثقافية ومن الناحية الثقافة الاسلامية أيضا، فقامَ وهو شبل نجيب يحاور شباب عاصمة كجور مدينة تواوون، ويناقش معهم أفكار كبار المفكرينَ من رموزِ علماء الشرق وعلماء الغرب العباقرةِ، وهو بذلكَ لا يريد بذلك إلاَّ أن يجعلوا أساسَ فلسفتهم في هذه الحياة قولَ الحكيم العليم: “من لم يولد مرتين؛ فلن يلج ملكوتَ السَّموات والأرض”؛ فمن نقطةِ المسرحيَّةِ انطلقت تلكَ الحافلة الاسترشادية وذلك لفهمه الوضع الاجتماعي السنغالي يومئذ. والمسرح سيدي الكريم ليسَ إلا الدنيا الصغير؛ فقد قال الأديب الانجليزي شكسبير: “ما الدنيا الا مسرحٌ كبيرٌ” ويقول الفلاسفة الانسان كائن اجتماعي فالمسرح إذا يلعب دورا لا يستهان به في تسهيلِ روابط المجتمعات، فسموه بأبي الفنون؛ لأنه يجمع في طياته جميع الفنون وخاصة ما يدفع سير الأمم إلى الأمام، ولا يفهم كنه هذا الأمر الا اذا رجعت إلى علاقة علم الفلسفة _ التي هي هي أم العلوم _ بالعلوم الأخرى.

ومن فوائد المسرح أيضًا ما يقوله بعض مخصصي علم الاجتماع: “المسرح يجسد الواقع بصوره المتعددة، ويتوصل إلى حلول لمشاكل المجتمع.” وذكروا أيضاً أن المسرح يزيد نسبة الوعي بين الناس، ولكونه يتطرق إلى قضايا آنية، فهو يعالج المشاكل الاقتصادية التي قد تواجه البلاد أو مجموعة أو أفراداً. (راجع فضلا موقع الخليج أونلاين). علاوة على ذلكَ فالضحك يعدُّ من أنفع الدواء الذي يستعمله بعض الأطباء لعلاج بعض الأمراض النفسية التي لا يرى الطبيب لها دواء؛ والمسرح من مظان الضحك والتسلية، فيمكن أن يكون سلاحا ذو حدَّين؛ فهذي البداية تمُتُّ إلى علو همةِ هذه الشخصية، ومكانته العلمية الرَّفيعة أيضا. “وفضلاً عن ذلك، يرى المختصون أن المسرح يساعد المفكرين والجهات الحكومية والمجتمعية في نشر المفاهيم والقيم والتوعية والتوجيه والإرشاد، وهو ما يلاحَظ في المسرحيات الوطنية، التي تحث على حب الوطن والدفاع عنه والحرص على حماية خيراته، وصيانة موارده ومكتسباته والحفاظ عليها.” (الخليج أونلاين) وقيل بأن أرسطو أيضًا كان يقول: “أعطني مسرحا، أعطيك شعبا مثقفًا”. فقد مسكَ مصطفى المكتوم زمام المسرح لتثقيف الشعب وخاصة الشباب، وكذلكَ أيضًا تخفيف آثار الأزماتِ والنَّكباتِ التي يعيشونهَا.

فهو _ محمد مصطَفَى _ بلا شك مجدد هذا العصر؛ لكونه صنعَ سدًّا منيعا وحصنا حصينًا بين ايديولوجيات الغرب التي جلها مادية بحت لاَ يساعد الانسان من اجتياز مرحلة ابن آدم إلى رياض النيرفانا. وكذلكَ أفكار أهل الشرق الحديثية العهد بالإسلام _ لأن الفكرة السلفية أو الوهابية ولدت مع نهاية القرن العشرين على أغلب الأقوال وقل مثل ذلك في الفكري الشيعي الخميني _ فكان ممثل الفكر الصوفي الصافي، ومحامي الاسلام والتصوف في السنغال وخارجها _ سل علماء الجزائر وكذلك القائد معمر القذافي وأنداده من عظماء العالم الاسلامي يومئذ _ فهو أيضًا معلم الشباب المثقفين وبالأخص سواد الشعب الذين كانوا بين مطرقة السياسيين وسنداب الشيوخ الصوفيين الذين كلهم فخوخ! كما قال جدنا الخديم في كتابهِ (مسالم الجنان) وكذلكَ أصحاب اللحى المزيفة الذين كانوا يسبحون بحمد السعودية كل حين! فحملَ مصطفى المكتوم فلسفة “ليسَ يفيد سواد الجسمِ! إلى أرض الواقع، وكأنه في تطبيق هاته الفلسفة الزنوجية طاليس زمانه من “أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض” فمن ينزلُ فلسفة الكبار والعظماء إلى أرض الواقعِ _ وبالأخص _ السنغال ذاكَ البلد الذي لا يعرفون قدر المرء الا بعد وفاته كما يقول المكتوم رحمة الله عليه لا بد أنه سيعاني كثيرا، وإن شئتَ فقل ضعف ما عاناهُ أجداده الكرام من السنغال وخارجها.

ومن يمنع النظر أيضًا يرى بأن مصطفى المكتوم وارث الجد سيد الحاج مالك سي رحمة الله عليه الذي واجه المستعمرين وأهل “تيدو” وكذلك علماء السوء الذين خاطبَهم سلطان السلاطين في غرب افريقيا الشيخ الحاج عمر الفوتي تال رحمة الله عليه عندما قالَ في قصيدته “تذكرة المسترشدين”:
ما أفسدَ الدين سوى الملوك
وعلماء السوء بالمهالكِ

فقد توجه مصطفى المكتوم نحو العاصمة السنغالية دكار لتكملة هذه المهمة الشاقة التي بدأه الحاج مالك رضي الله عنه منذ زمان، فوجد الشعب وبالأخص الشباب يعيشون أزمات جمة، وأعظمها الأزمة الأخلاقية التي هي أساس الانحطاط والتقهقر. وقد قيل بأن الشباب كانوا يجتمعون في داره _ أو أمام باب داره _ في “بوبْ دِيركَلِ” ويتابع معهم “مُوسِي سِيْ” كما كانوا يسمونَهُ شرائط “رِغِي” أو ما يشبه ذلكَ، وبينَ حين وآخرَ يعلق “موسي سي” ويضع تعاليم رسول الإنسانية نصبَ أعينهم؛ حتى تيقن الشبان بأن هناك تعاليم أسمى، وقيم عالية أعظم مما يظنون، فطلبوا منه البديل _ ثمرة من آثار التوعية, وأسلوبِ الدعي الناجح _ وهو انشاء جلسات للاستماع إليه بدلا من الاستماع إلى أفكار المغنيينَ التي جلها نظريات فقط، لا ينفعهم شيئًا في الخروج من هاته الحياة المؤسفة التي يعيشونها؛

فواجه مصطفى المكتوم الفكرة بالفكرةِ _ يشهد ذلكَ محاضرته في الجامع الكبير بدكار “شيخ أنت جوب _ وهذا أيضا تطبيقًا لفلسفة شيخه ومرشده القائل في بعض قافيته:
فالعصر عصر نضال في مخاطرة
نضال فكر إذا ما غالبُوا غلبَا

وخاطبهم أيضا بلسان الحال و المقالِ، _ الجمع النظرية والتطبيق _ فسل أهل البَارَاتِ ورؤساء الجمعيات الشبابية « Les ASC » عن هاته الشخصية الفذة، يجبكَ أهل “أَذْكَى” بتواوون وقفاته النبيلة. فالغريب من سيرة هذه القامة أن جميع هؤلاء الكبار الذين تسمع عن اسمائهم في أرشيف الدائرة والدعوة الإسلامية لم يتم تكوينهم الأساسي باللغة العربية ولا بالثقافة الإسلامية؛ فقد كانوا متفرنسينَ غارقين في أيديولوجيات الغرب، وهم كثر ويعرفهم جل الباحثين في سيرة هاته الدائرة؛ بيد أنهم لعبوا في الساحة الدعوية السنغالية ما لم يلعبه عالم ولا فقيه من معَاصريهِمْ!

هذا العيلم الهمام القمقام هم الشموس اذا صار الليل كالحا، وهم أسود الوغى إذا جاء أمر جلل _ فراجعوا أرشيف الأحداث السياسية بين عام ١٩٩٣م و١٩٩٤م _ وهم الأرانبُ بين الأهل والأحباب، يقول الله تعالى في كتابه يصف المسلمين الصالحين: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} وكفار زمننا هذَا هم الذين يحاربون فكرة الأصالة والمعاصرة، ويحاربون أئمة الرضوانِ، سواء كانوا مسلمين أم وثنيينَ. فيمكن القول بأن هؤلاء السادة فتحوا مشارق السنغال ومغاربها لا بالتشيخ والتكسر؛ لعلمهم التام بأن الدين يقوى بالعلى، فشمروا بساع الجد، وبذلوا النفسَ والنفيس لأجل هذا الغرض النبيل الذي قال فيه رسول الانسانية: “يا عمّ، والله لو وضعوا الشمس في يمينى والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه ما تركته.”

فمصطفى المكتوم هو العلم المفرد في البلد منذ نهاية التسعينات الى يومنا هذا فهوَ الذي يقول: _ بلا رياء وبدون لف ودوران، وإن ظلموه وعايروهُ وشتموه _ “لا للظلمِ، لا للاستغلال، لا للاستبداد”. فيمكن القول إذا بأن محاولة رميِ الطلاء على صفحات تاريخ هذا العبقري لا يزيدها إلا جمالا وجلالا؛ يقول أبو الأسود الدؤلي:

حسدوا الفتى إذا لم ينالوا سعيه
فالقوم أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
حسدا وبغضا إنه لدميم
وترى اللبيب محسدا لم يجترم
شتم الرجال وعرضه مشتوم
وكذاك من عظمت عليه نعمة
حساده سيف عليه صروم

ومن يقارن هذا الهمام بسيد آخر فاطلب منهُ أن يخبركَ أينَ كانَ المقارن في التسعيناتِ؟ وقف أيضا عن المجال الاصلاحي والاجتماعي والسياسي. واخبروه أيضا بأن يعرض انجازات هولاء الكواكب الذين يسجدون أمام انجازات مصطفى المكتوم الذي شهده القاصي والداني رغم أنوف الكفار (الجاحدين نعمة الله على خلقه من الكفار والمسلمين). ولكن جدنا المكتوم قال: “من طبيعة هذه الأمة السوداء أنها لا تعرفُ قيمة أي ذي قيمة إلا بعد ارتحاله إلى الدار الأبدية أو إذا عرفت قيمته فلا تعترف بها إلا بعد موته… ولذلك يعسر على كل من يدعو إلى دين أو إلى فلسفة ما أن ينشر دعوته بوجه محمود. ومن طبيعتها إنكار ما شاءت ولو ظهر لها منفعة ذلك. ولذلك كان الإمام يقاسي من المضرات ما لا يقاسيهِ إلا الأقوياءَ. (مجهول الأمة، ص: ٦٥).

فلو ترك الناس القول وعرضوا انجازات شيوخ هذا العصر _ دون انجازات أجدادهم _ أمام الملأ، يومها سيعرف الجمع من يعمل لأجل الاسلام والوطن، ومن استغل الاسلام والوطن لكي يعيش هنيئا مريئا! سجنته الحكومة لأجل الوطن والدين، بعد أن أمام الشعب السنغالي الأبي حفظا لكرامتهم وتخليدا لمقاوماتِ أجدادهم، ثم جندت الحكومة حملات عدة لتشويه عرضه ومحاولة عرقلة مشروعاته فعلَّمهم بأن الفكرة لا تموت بموت المناضل، ناهيكَ عن سجنه واعتقاله، لأن السجن راحة ذي التفكير جنته، ومجالسة الفقراء والمساكين ديدن العظماء والعباقرة!

فها أنتم اليوم ترون مشروعاته الضخمة بين أيديكم؛ مسلم غيور بدينهِ، ومواطن صالح يسهر لأجل الوطن، فهو مرشد الأجيال مثل جده الحاج مالك _ لا شكَّ _ علم بأن الحياة عقيدة وجهاد، وأن الاسلام تضحية ونصيحة كما يقول الكبار! فهدف الاسلام اذا لا يكون الا اعداء مسلم صالح، ومواطن صالح، يأبى الظلم ولو على نفسه وأهله. وهذا ما يعجل المجدد والمصلح يخرج من إطارِ {نحن أبناء الله وأحبؤه} إلى عرصاتِ {ما محمد أبا أحد من رجالكم}، فترى في جلساته جميع شرائح المجتمع من كل الأسر الدينية الشهيرة في السنغال؛ وذلكَ ليعلم القادة والسادة أن الانتماء إلى أسرة شهيرة ليس جسرًا إلى جنات السياسيينَ والأغنياء. بذلك ينسى المجدد والمصلحُ نفسه وأهله وقومه لأجل المسلمين والإنسانية. فيا محمداه! أين أفراد أسرتك اليوم؟ أين أحفاد اليوم؟! أين وأين؟ فكل هذا يظهر لنَا كونك رسول الإنسانية وليس رسول العرب فقط وناهيك عن قريش!

فلو سجد ليوسف العقبات الثلاثة، وشهد القاصي والداني، مواقفه البطوليه، فليس من العار اذا أن يعتكف يوسف ويجلس أمام ربه لمناجاته بكرة وأصيلا، وقراءة دعائه الفريد {توفني مسلما _ بعد عمر طويل ان شاء الله _ وألحقني _ يومَ لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلم سليم _ بالصالحين}…فتلك هي الحياة يأتي مصلح ومجدد ثم يخلفه مجدد آخر {إلى أن يرث الله الأرض ومن فيها}…

وقبل الانصراف أذكرك بأن ما يعجبني فيكَ أيها الشيخ الجميل؛ غريقك في بحر الكرامةِ والشهامةِ والعدالةِ حتى الأذنينِ! أكرمتَ جميع العلماء والمثقفين في البلد بغض النظر عن إختلاف مشاربهم الفكريَّة وانتماءاتهم الدينية؛ فكانت جامعة رمضان منصة لجميعهم، والندوات والدورات العلمية والثقافية التي تقيمها مؤسستكَ مشربا وماء زلالا لجميعِ المسلمين والمواطنين. يجزيكَ الله خير ما جزى الشهداء والصالحين. ويذكرني هذه الوقفات النبيلة منكَ قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
إنما يقدر الكرام كريم *** ويقيم الرجال وزن الرجال

وختاما أعرض هذين البيتينِ ليدل على استماتتنا نحن المسترشدين _ بصفة عامة وبصفة خاصة أيضا _ لأجل نشر الفكر الاسترشادي، ذاك البيتين الذين قالهما أخ الأوسِ لابن عمه عندما حاول هذا الأخير منعه للذهاب الى حضرة الرسول محمد عليه السلام لنصرة نفسه {ان تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم} فقال له:

سأمضي وما بالموتِ عار على امرئ
إذا ما نوى حقا ولم يلف مجرما
فإن مت لم أندم وإن عشتُ لم ألمْ
كفى بك موتا أن تزل وترغمَا


٣٠/أبريل/٢٠٢٢م

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici