الشّيخ مصطفى سيلا نجل القاسم على السّطور

0
239

     

     إنّ تدوينَ كلِّ الأحداثِ التي رافقتْ حياةَ شخصيّةٍ دينيّة وتاريخيّةٍ ، والأدوار التي قامت بها في ميدان التّربية والتّعليم والإنتاج الفكريّ والأدبيّ ، ونشر الثقافة العربيّة والإسلاميّة ، وفي ميدان العمل الرّياديّ ، والمحطّات التي مرّت بها هذه الشخصيّة ، وألقتْ فيها عصا التّسْيارِ ، يبقى عسيرًا ؛ في ظلّ صعوبة مزامنةِ تلك الأحداث ومعاينتها ، وشحّ المصادر باختلاف أصنافِها ، فيؤدّي ذلك إلى ضياعِ تاريخها ، أو جزء من أهمّ محطّاتِها التّاريخيّة ، والذي قد يُضفي مع وجوده على حياتِها قيمةً ذات الطابع العلميّ والثقافيّ ، تُلفتْ أنظارَ الباحثين ومهتمي التّراثِ والمعرفةِ . 

 لكنّ ذاكرةَ التّاريخِِ تبقى الحاضنة الأساسيّة ، التي يمكن أن تَرْوِيَ لنا محطّاتٍ تاريخيّةً عن شخصيات مَنطقة الجنوب ، والذين شكّلتْ مشوارَها العلميّ محاضرُ المنطقة التّقليديّة ، ومن هؤلاء الشخصيات ، شخصية الشيخ مصطفى سيلا نجل القاسم من السّلالة الجاغويّة .

 مولدُه ونشأتُه :

    ولد الشيخ مصطفى سيلا بن قاسم بن عمر بن محمّد الأمين بن عبد الله بن محمّد الأمين بن أبي بكر مولاي سيلا ، سنة( ١٩٦٠م )في اليوم الخامس وعشرين من شهر أكتوبر في انجاسين جولا ( Ñassen diola ) والتي كانت وما زالت تابعة لبلديّة سنسمبا ( Sansamba) بإقليم سيجو ، وفي أسرة دينيّة عريقةٍ ، لكنّ والده انتقل من هذه القرية إلى طيّبة بعدما أسّسها سنة ( ١٩٦٨) .

وأبو بكر مولاي سيلا هذا أتى من بندُ ( Bundou) بني إسرائيل التابعة لإقليم تامبا كندا ، وقد أسسها الشيخ الحاج مالك سه ساده سنة “ 1660″وبندُ هذه كان لها وزنها التّاريخيّ والعلميّ اللذين لا يستهان بهما ، خاصّة في ظلّ وجود القيادات التّقليديّة في السّنغال .

وقد كان والده القاسم يتمنّى أن يرزقه الله من يتولّى بإقامة ليالي المولد النّبويّ الشّريف ، وذات يوم سمع هاتِفًا من السّماء حيث ناداه باسمِه ثلاث مرّات قائلا : بأنّ الله سيقوّي إرادتكَ ، وما تتمناه في حياتك !

   والدته هي : آمنة بنت مصطفى سواني بن إبراهيم بن فودي مند ( Maand) سواني ، والذي جاء من جنّابَا ( Dianna ba )بلديّة تابعة لإقليم سيجو، وفي الطريق العمومي نحو كولدا ( Kolda ) الإقليم الثاني لمناطقالجنوب ، وسكن في ودُكار ( Oudoucar ) ثمّ انتقل إلى يانكي سُجَ ( yankë soudia ) بعدما شكى أهالي وُدُكارْ بضرر مواشيه بشكل مستمرّ، ويانكي هذه قرية فولانيّة ، وقد توفي جدّه الأخير من جهة أمّه البارة آمنة في هذه القرية الفولانيّة حسبما أشار إليّ الشيخ كيمو سواني والذي له قرابة دمويّة لهذه السّلالة . 

وآمنة هذه والدتها كانتُمي درامي ( kantoumè Drame ) من كرانتبا ، شقيقها هو بمبو دراميّ ( Bambo ) وقد رُزِقتْ أمّ كانتمي مُصُبا كني ساخو هذه بتسع بنات وزعّتها بين القبائل الموجودة في كرانتبا ( Karantaba ) ومثل هذه الأسماء لها سياقها التّاريخيّ والمعرفيّ عند المنادكة ، ولذا من النادر أن ترى قبيلة داخلها خاليةً من سلالتها .

تأسيس الوالد طيّبة :

مكث والدُه القاسم في انجاسين جولا عشر سنواتٍ ، ثمّ غادرَ عنها ، بسببٍ وجود انحراف سكانها العقديّ ، وهو أنّهم لجأوا إلى إحضار تمثالٍ يعكفون على عبادَتِه وتمجيدِه ، وتخصيص يوما خاصّا له في السّنة .

غادر الوالد القاسم من انجاسين مع فاسيد من غينيا ، وإبراهيم سيسيه سانديار (Sandjñer )متّجهين نحو مرساسوم ، حيث صديقه تماني كمارا ( toumané Camara ) والذي كانت بينه وبين القاسم علاقة وطيدة ، وكان هذا الأخير نائبا برلمانيّا في ذاك الوقت ، وله وزنه الاجتماعيّ داخل المراسسةِ ، وهو الذي تمّ على يده تعميد ابنه المصطفى الذي هو موضع دراستنا ، وكانت بين تماني هذا وبين أسرة كانكبَا علاقة دمويّة ؛ لأنّه تزوّج ببُمبا سأني ( boumba Sané )إحدى فتيات تلك الأسرةِ ، وكان رئيسُها آنذاك فاداوود سآني ( fa daouda Sané ) ، تحدّث معه يحيى سأني الذي كان رفيقًا لتماني كمارا ، حول إرادَةِ ضيفه القاسم ، والتي مفادُها هو تأسيس قرية يقف عليها للتّربية والتعليم ، فاستحسن فاداوود هذه الإرادةَ ، ونادى أفراد القبائلِ ، ومن تلك القبائل : قبيلة سنكو ( Sonko ) ،وقبيلة منجنغ ( Mandiang ) وقبيلة منك كندَا ( Manga Counda ) وعائلة سانُوا ( Sano ) .

خرجت هذه القبائل إلى الأراضي التي كانتْ تحت حيازتها ، وحيث أرض لم تكن تحت حيازة قبيلة سانوا ، فقالوا : بأنّها لقبيلة منجنغ ، وبيننا علاقة تجاورٍ ودمويّة ، ثمّ قالوا للقبيلة المالكة : إنّ ضيفنا هذا له حاجة في هذا المكان ، ولمّا توافق الطرفان من شأن الأرض ، تنحّى الشيخ القاسم وأخذ جزءً من كثيبها ، ثمّ دعا فيها ورماها في الجهات الأربع ،وقال لهم : بأنّ المكان لشخصٍ ما ، ثمّ غادروا المكانَ ، وكان يسكن قبالةَ هذا المكان وثنيّ اسمه باترون دا سِلْفَا ( Patron Da Silva ) ثمّ قالوا له : بأنّ هذا الشخص يريد الإقامة هنا ، حيث شجرة الباوباب والأغوار والنّجادُ ، لكنّ باترون هذا قال لهم : بأنّ المكان لشخصٍ ما ، لكنه غادر دونه منذ زمن بعيدٍ ، لكن متى ما جاء سأتفاتح معه القضيّة ، وهو شخص خفيف الجناحِ ، وهنا نرى التطابق بين  قول باترون وما قاله القاسم في شأن الأرضِ ! أليست هذه الشخصيّة مجرّدة أسطورة أم واقعيّة ؟

وبعد مرور عشرين سنة من سنة التّأسيس توفي والدُه القاسم عام 1994م ، ووارى جثمانه التراب في المكان الذي جلس فيه يدعو ، عندما خرج مع القبائل السّالف الذّكر ، وما زال ضريحه ثمة يُزارُ .

حياتُه وإنجازاتُه العلميّة :

      عندما قوي عود الشيخ مصطفى سيلا ، وشارفَ سنّ التّمييز ، بدأ عند والدِه دراسةَ كتاب الله العزيز في انجاسين جولا ، وبعده ، درس في علم الصّرف كتاب ( لامية الأفعال ) وفي علم النّحو ( التّحفة السّنيّة ) وملحةالإعراب ) وهذا الأخير عبارة عن منظومة يبيّن فيها البصريّ بعضًا من المبادئ النحوية الأساسيّة ، التي يمكن أن يبتدأ بها المبتدئُ لفهم المبادئ النحوية المعقّدة : كالحذف والتقديم والتّأخير ، ولذا كان هذا الكتاب من المقرر في محضرة والده القاسم ، كما درس الكتب الفقهية : كالأخضريّ لعبد الرّحمان ، صاحب كتاب ( سلّم المنوّرق في علم المنطق ) والرسالة لأبي زيد القيروانيّ ، والمصباح ، وأقرب المسالك لابن محمّد الدردير العدويّ , ومتن ابن عاشر محمد بن عبد الواحد ، وهذه الكتب تعتبر من الكتب المقررة لجلّ محاضر المنطقة التّقليديّة  ، والتي عبّأت مهمة تربية أبنائها ونشر الثقافة العربيّة والعلوم الإسلاميّة بينهم ، وكان والدُه يهتم به كثيرا ؛ نظرا لما لاحظ فيه علامة النّجابَةِ واللّباقةِ ، حتّى ناداه يوما باللّبيب .

وكان الشّيخ مصطفى سيلا يتمتع بذاكرة قويّة وبرهافةِ الحسّ المتزايدة ، ساعدته إلى أن كان سريعَ الإدراك والفهم والاستيعاب ، وإلى جانب ذلك كان والدُه يسافر معه ، ويتلّقى منه خلال السّفر دروسًا من كتب الفقه واللغة ، لكنّ الشّيخ مصطفى سيلا لم يطّلع على بعض الكتب النحويّة : كقطر الندى وبلّ الصّدى ، وألفية ابن مالك  …والصّرفيّة : كشذا العرف في فنّ الصّرفِ ، ونزهة الظّريف في علم التّصريفِ …أيّام التمدرس ، لكنّه  تولّى مهمة تدريس طلبة والدِه القاسم في حياتِه ، وعكف على تدريس هذه الفنون كلّها نيابة عن الوالد ، رغم أنّه لم يدرس جلّها !

، خاصّة عندما تراكمت على الوالد مسؤوليّة تربية الأبناء ، وتوفير مصادرها الاقتصاديّة والحيويّة ، إلى جانب توفير فرص التّلقّي أمام الطلبة الوافدين إليه من شتى بقاع المنطقة ودول الجوار .

    حكى لي والدي الشيخ الحاج امبمبا نجل السّنوسيّ انجاي ، من كبار قبيلة فودي با كندا البقاويّة ( Pakao ) ، ويعتبر في المنطقة من الذين يرجع إليهم معرفة أنساب قبائل منطقة الجنوب ومحطّاتها التّاريخيّة  ؛ نظرا لما يتمتع من ذاكرة قويّة ، يستحضر الأحداث التاريخية وجغرافيتها بصورة عجيبةٍ ، وشيخ من مشايخ قبيلة سواني من جهة والدة الشيخ مصطفى سيلا آمنة ؛ بأنّ الشيخ مصطفى سيلا لقّنه والدُه القاسم الأسرارَ جعلته يتقن العلوم بدون شيخِ تعليمٍ يُعلّمه ، وقال : لا غرو في ذلك ؛ لأنّ والدَه القاسم حاز عناية ربّانيَة منذ ريعان شبابِه ، وكان عالما درّاكًا ومتقنا لا يبارى في عصره ، وتربّى جزءًا يسيرًا من حياته عند مصطفى سواني وبه سماه الوالد ، ومصطفى هذا كان من ضمن تلاميذ ابن العربيّ لي من وَالُو ( Walo ) وهذا الأخير كان – حسبما أشار إليّ الشيخ كيمو سواني الكبير – يعتبر من جلّة العلماء الذين تم تسويد مهمة الإفتاء للمسائل الفقهية والأحكام الدّينيّة إليهم على مستوى غرب أفريقيا ) لكن لم أقف على نصّ تاريخيّ يتحدّث عن هذه الميزة العلميّة التي حازها ابن العربيّ لي الوالويّ  ؛ زيادة إلى أنّ علمي عن شخصيته ضئيلٌ جدا .

    والظروف العلميّة التي نشأ فيها الشيخ مصطفى سيلا ساعدته إلى الاهتمام بالعلوم ، وأيضا إلى جانب إدراك ضرورة مواصلة المهمة التّعليميّة والتّربويّة التي كانت من ضمن اهتمامات والدِه القاسم . 

    ظهر في حياة الشيخ مصطفى سيلا ميل أدبيّ ، أدّاه إلى طرح القضيّة أمام والدِه القاسم ؛ للخروج إلى دراسة فنّ العروضِ ، لعلّه كان يدرك أهميّة دور التّأليف في حفظ التّراث الإسلاميّ ، وتوجيه مسار سلوك أبناء المنطقة نحو أخلاق إسلاميّة ونبيلة ، وطمّ الموروثات العقائديّة المنحرفة ، خلّفها وجودُ المسيحيّة في المنطقة عبر التّاريخ ، ومحاولة ردم معينها ، تلك الموروثات أثّرت على مستوى الأخلاق والممارسات الدّينيّة ، وأتت جرّاء ضمور دور علماء المنطقة في حمل عبءِ بيان الشريعة وأحكامها ، خاصة الأحكام العقائديّة والعمليّة .

لكنّ والدَه قال له : أيّها اللّبيب ، ألم تعلم أنّني ليس ثمة فنّ من فنون العلم ، إلاّ وأنا لي رياسة في تدريسه وتعليمه ، هات بالورقة مع القلم ، فأتى الشيخ مصطفى ما أراد الوالد منه إحضاره ، فبدأ يبيّن له الأوزان الشّعريّة والأعاريض ، إلى جانب ضرورات الشعر وعللهِ وزحافاته ، ومن ثمّ بدأ الشيخ مصطفى سيلا يهتمّ بالشّعر ، قاده في آخر المطاف إلى قرضِ الشّعر ، وتأليف الكتب ونظمها .

    دخل الشيخ مصطفى طور النّظم والتّأليف في حياةِ والدِه بطيبةَ ، بعد مراحل الهضم والاستيعاب التي مرّ بها ، وأوّل كتاب ألّفه هو ” مِفتاح السّعادة في معرفة توحيد العبادةِ ” كتاب في العقيدة ، عبارة عن منظومة يبيّن فيها الشيخ أنواع التّوحيد ، وما يتعلّق به من مسائل عقائديّة ضروريّة ، ينبغي للمسلم معرفتها ، وكان زمن تأليف هذا الكتاب سنة 1990م ؛ لأنّ والده توفي سنة 1994م بعدما وافى طيبة عشرون سنة من التّأسيس .

   من الصّعوبة بمكانٍ العثور على إنتاجات الفرد الأدبيّة والفكريّة ، وضمّ أذيالها ، خاصة في ظلّ تراكم الارتباطات الاجتماعية ، وسوء عمليّة وضعها على الرُّفوفِ ، فتكون عرضةً للأرضةِ والدّيدان ، فتدخل في طور الضّياعِ بشكل كلّيّ ، أو ضياع جُزْءٍ هام منها ، أو تسقط منها نقط وعبارات ، بدونها يمكن أن تكون من الإنتاجات بضاعتُها مزجاةٌ ،

وهذا ما حصل لمعظم علماء منطقة الجنوب ، كسيلا با في دار السّلام والذي شنّ حملة تطهيريّة عقديّة ضدّ مندُوار الوثنيّة ( Mandouwar ) ، وحفيده جيرنُ بن عليّ سيلا كان عالمًا وشاعرًا في نفس الوقتِ ، نقتطف من بعض سجاله الشعريّ والذي دار بينه وبين إبراهيم حيدر بن الشيخ سيديا باب الموريتانيّ لمّا زار منكونمبا قرية الباحث  :

 جِئنا لِلُقْياك يا من حُبّه سكنا     $ وفينا وتعظيمُه لله قد وَجبَا

 يا درّة الدّهرِ يا من وقتُه عرفا   $ يا فوزا من في ذاتكم رغبا

 قد زرتنا وفي زوركم لله منفعةٌ   & نعطى بها أنعامًا ونكفى بها كربا

 قدومكم بمحضِ الخيرات ببركتكم  $ نرجو بها في كلا الدّارين خير حبا

فردّه الشيخ إبراهيم حيدر الموريتاني بنفس القافية قائلا :

  قد زُرتنا زورةَ هاجت لنا طربَا  $ بها قضيتَ من المعروف ما وَجبَا

  وجُدت حين وافيتَ أحد من سلفَا $وسَهّلتَ للمعالي كلّ ما صَعُبا

  وأبرزْتَ من قريضِ الشعر مُنسَجِمًا $ به نُميرُ الأماني عاد مُنسكِبَا

وهذه التّجاذبات الشعريّة وغيرها لا تكاد تجدها في كتاب خاصّ ، بل من التي تتداولها الألسن والذّاكرة ، وذات يوم- لا قدّر الله – سيطير بها عنقاء مغربٍ 

وأبي بكر دابو من علماء وُدُكار ( Oudoucar ) ، والشيخ كبير درامي البقاويّ والذي مدح والدي الشيخ الحاج امبمبا بقصيدةٍ مطلعها :

  ما رأيتُ مثلك ما بين الصّبيان  $ علما ونورًا جميلا تحت الخضراء

والشيخ جيرنُ مامُدُ سيسه ( Thièrno mamudou Cissé ببقاو منكونمبا ، والذي درس عليه جمهرة من أبناء المنطقة منهم : الشيخ خليفة جـابي من جاغة ، والشيخ الحاج منتي من بادِبُ الغامبيّة ، ومن مشايخ المنطقة الذين لم يحفظ لنا التاريخ تراثهم الأدبيّ ، إبراهيم درامي ، خرّيج محضرة العالم الفقيه والبحر الأزخر الشيخ باي انياس الكولخيّ ، والشيخ فودير با درامي ( Foderba Dramè ) والشّيخ مام آس كمارا من سُمبُندُ بقاو ( Soumboundou ) ، وغيرهم من مشايخ منطقة الجنوب ، الذين كانت لهم طفرة علميّة رهيبة ، وإنتاجات ذات نكهة أدبيّة رصينة ، لكنّ طوتها أيدي الإهمال والنّسيان !

 ولكنّ الشيخ مصطفى سيلا كان له بعدُ النّظر ، وهيثمًا دأب إلى تأليف جمهرة من الكتب ونظمها ومنها :

١ – تيسير المقاصد . وهو منظومة في السّيرة ، جاء في بدايتها : 

الحمد لله ذي التّعظيم يا لله $ مُجيبِ دعوةِ ذي الحاجات يا لله 

والشيخ في هذه المنظومة درج على منوال الشعراء الذين أتوا مباشرة بذكر ما أولاهم الله تعالى من نعمٍ ، دون إتيان مقدمة غزليّة ، من ذكر الأطلال والبكاء عليها ، والذي يعتبر من النسيب أو التّشبيب .

٢ – سبل الرّشاد في مدح خير العباد ، وهو أيضا منظومة ، مطلعها :

الحمد للعليّ خالق الورى $ ممدّنا بنور طلعةِ الهدى 

حمدًا لذي الكمال والمكارم $ أحاط مُلكُه الأراضي والسّما

ثُمّ السّلامان على باب النّدى $ شمس الهدايَةِ وبدرٌ للدّجى

  ويظهر جليًّا في أنّ الشيخ مصطفى سيلا ، له اطّلاع واسع لفنّ البلاغة ، الذي لم نعثر على أنّه من الفنون التي درسها ، لكن رغم ذلك يأتي بأنساجٍ للبلاغة حظّ كبير فيها ، على سبيل المثال قوله : ” شمس الهدايةِ ” وبدر للدّجى ” كلّ هذه تشبيهات بلاغيّة تخدم المعاني ، والمعاجم اللغويّة التي استعملها الشّاعر، إلى جانب استعماله ” ال ” للاستغراق في لفظ ” الحمد ” حيث تجعل ” الحمد ” على أربعة أقسام : حمد قديم لقديم ، الذي يحمد نفسه في بعض الآيات القرآنية ، وخوفا من الإطالة والإسهاب نكتفي بإشارتها .

حمد قديمٍ لحادث : الله يحمد عباده الذين يعترفون عبوديّتهم واقتفارهم إليه جلّ شأنه .

حمد حادثٍ لقديمٍ : العبد يحمد ويشكر ربّه عند نعمة أنعمها الله إيّاه .

حمد حادثٍ لحادثٍ : العباد يشكرون فيما بينهم .

ولهذا قسّم القوم ( المتصوّفة وأهل الدّراية ) الحمد بأربعة أقسام .

٣- كنوز المنافعِ في مدحِ الشّافع ، وهو منظومة مطلعها :

الحمد لله من في الخلقِ اخْتارَا $ حبيبَهُ المُرتضى للدّين نصّارا

  وهذه المنظومة من المنظومات التي ينشدها تلاميذه في المناسبات الدّينيّة والحملات التوعويّة التي تُقيمُها الدّوائر في مختلف مناطق المَنطقة ، وتحت إشرافِ الشيخ مصطفى سيلا ، حيث يتناول فيها موضوعات الساعة ، والتي تحتاج إلى تحليلها بكلّ الأبعاد ، من البعد الدّينيّ ، والسياسيّ ، والاقتصاديّ ، إلى جانب البعد الاجتماعيّ .

٤- نيل المطالب في التّوسّل إلى الله بالمرتضى الغالب . وهو منظومة أيضا مطلعها :

 الحمد للمُهيمنِ المَنّان $ ربّ البرايا الواحد الرّحمان 

٥- البرهنة الكافية في الرّد على الشبهات الوهابيّة .

كتاب في النثر ، حاول فيه الشّيخ المؤلّف بيان المسائل العقائديّة : مسائل الاستغاثة ، ومسائل الاستخارة والتّبرّك ، والتي أفتى فيها علماء أهل السّنة حتى وصلوا إلى حكم شرعيّ يخرج المسلم من دائرة الإسلامِ ، مع أنّ الحكم لم يصل إلى هذه الدّرجةِ ، كما يبيّن شرعية هذه الأمور بأدلة وبراهين كافية .

٦- خطورة الفكرة الوهّابيّة في تفريق الأمّة الإسلاميّة .

في هذا الكتاب يُبيّن الشيخ أنّ الأمة الإسلاميّة في حاجة إلى التماسك ورصف الصفوف ، ولا يتأتّى ذلك إلاّ بعد إيجاد أرضية التفاهم بين الطوائف الإسلاميّة ، والبعد قدر الإمكان عن المسائل الفرعيّة المثارة ، والتي تؤدّي إلى خرق نسيج الأمة وتفرقتها ، كما يشير إلى أنّ الأفكار ذات انتماء عقديّ وهابيّ مما يؤدّي إلى سوء الاستقرار والأمن داخل الأمّة .

٧- مفهوم البدعة في الإسلام .

٨- منهاج السّعادة في معرفة الأدلّة المنقولة في الاستغاثة المذمومة والمشروعة .

٩- آداب الأنجابِ في معاشرة الأصحاب .

    وهذه الكمية الهائلة من الإنتاجات وما فيها من فنونٍ لها ذوقها الأدبيّ ، وقيمة علميّة ، تعبّر عن ثقل الشيخ مصطفى سيلا العلميّ وسعة اطلاّعه ، وعمق شعوره بضرورةِ سدِّ فراغٍ معرفيٍّ لأبناء محضرته ومهتمي المعرفة والثقافة العربيّة والإسلاميّة .

وهذا الثقل العلميّ الذي كان الشيخ يتمتع به ، دفع جلّة من علماء عصره في المنطقة ودول الجوار ، باختلاف اتّجاهاتهم الفكريّة وانتماءاتهم العرقيّة ، مسافنتَهُ والاحتكاك به ، فنَتَجَتْ عن هذا الاحتكاكِ علاقةٌ ذات طابع علميٍّ ، ساد فيها جوّ من التبادل الثقافيّ والزّيارات .

علاقة الشيخ بعلماء المنطقة .

 لقد سار الشيخ مصطفى سيلا مسار والده القاسم ، والذي كانت بينه وبين علماء المنطقة باختلاف انتماءاتهم الأسريّة وأفخاذهم ، علاقةٌ دمويّةٌ وعلميّةٌ ذات طابع وطيد .

 ومن هؤلاء العلماء – بدون إسهابٍ – شريف بون حيدر ” دار السلام ” التابعة لمقاطعة بنجون ” Bindiona” وكنجور سواري بمراكش “ وسالم سواني مؤسس مدينة سواني التابعة لإقليم سيجو ، وسالم هذا يعتبر من الضلع الرّاسخ في الفنون العربيّة والإسلاميّة في المنطقة ، وله مؤلّفات كثيرة ، وأبناءه أيضا لهم ثقلهم العلميّ ، والحاج مبين دافي ” Dioñer ” وغوث بارو السنكريّ ، والحاج عبد الودود دابو الخليفة الحالي لأسرة دابو ، والذين تعلّم الوالد القاسم على يديهم ، ومصطفى سه جميل بتواون…

 على أمل بقاء هذه العلاقات مستمرة بعد وفاة الوالد القاسم ، سعى الشيخ مصطفى سيلا إلى حمايتها وتمديد حبلها ، وذبّها عن كلّ ما يؤدّي إلى عفنِها وانقطاعها ، فكانت هناك علاقة مع الأشراف ، وعلماء المنادكة ، وأسرة جاغة وعلمائها والتي لها دورها التاريخيّ في نشر الثقافة العربيّة والإسلاميّة بين أبناء مناطق غرب أفريقيا عامة ، ومنطقة السنغال على وجه العموم ، عبر إنشاء محاضرَ تقليديّةٍ عبّأت مهمةَ التّربيةِ والتّعليمِ . 

   ومن بين هؤلاء العلماء ، سالمين جابي ” Kandialong ” ابن كران مـادبـا جابي ، الخليفة الحالي لأسرة مادبا ، والشيخ سيديا جابي التّسليميّ نجل العالم الأوحد والبحر الغطمطم الشيخ محمّد فودي جابي ، صاحب المؤلفات الغزيرة ذات اتّجاه علميّ متعدد ، وكرمبا سالم جابي مؤسس طابة ، صاحب الفيوضات الرّبّانيّة والتّجارب الأدبيّة النادرة ، والشيخ بكاي جابي انجندنكي ” Ñandanki ” والشيخ فابا سواري بمراكش ، والشيخ الحاج با جابي كور” Kawour” لا يمكن لنا عدّ ما تحتضن هذه القرى من علماء جاخنكيّة ذات وزن ثقيل ، والشيخ الحاج امبمبا انجاي ببقاو ” Manconomba ” ، والشيخ كيمو غسما بمرساسُم ، زوّج هذا الشيخ الشيخَ مصطفى ببنته سارة ، وأتى منها أبناء منهم ” بخاري … ، والشيخ حطّاب حيدر ببچاكو ” Biniako ” ، والشيخ شريف عبد القادر حيدر بسبكوروتو ” Sibikouroto” في مقاطعة سيجو ، والشيخ با كاسو جابي بغدمب ” Goudomp” ثانية مقاطعة إقليم سيجو ، والدكتور عبد الأحد ساني  صاحب الوزن العلميّ الثّقيل والمستوى الأكاديميّ الرّفيع ومتعدّد الأبعاد ، وكان يتولى مراجعة كتب الشيخ وتصحيحها قبل إصدارها ، والشيخ الحاج كوسو دافي بچوچير ” Dionier ” بسيجو ، والشيخ الحاج سيديا درامي بِانْجَمَ ” Ndiama ” نجل محمد سالم درامي ، وسيديا هذا له توجهه الصوفيّ والعلميّ ، حيث أسس قرية بنى فيها محضرة تحفيظٍ لكتاب الله عزّ وجلّ في قريته ، وهو سياسيّ أيضا له علاقة وطيدة مع رئيس واد ، والشيخ الحاج بارو سنكري ” Senkéré ” ، والشيخ مغيلي توري سنكري توري ؛ لأنّ هناك سِنكرَيْنِ : بارو وتوري . وهذه الأسرة أسرة علميّة ودينيّة أبناءها لعبوا دورا كبيرا في مجال التربية والتعليم ، ولجلّهم مؤلّفات وتجارب أدبيّة ، لكن ما عثرنا عليه من هذه التجارب ضئيل جدا ، فيتحتّم علينا كباحث يهتم بتراث علماء السنغال عامة ، وعلماء الجنوب بوجه خاصّ الاحتكاك بهذه الأسرة العلميّة التاريخيّة وغيرها ؛ لنبش ما خلّفها أبناءُها من تراث علميّ ثريّ ، أونفض الغبار عنه في الرّفوف ، وإخراجه في حيز الوجود ، بعد المراجعة والنّقد والتّمحيص .

 وطابع جلّ هذه العلاقات علميّ ، ومازالت مستمرّة ، وإن دلّ على شيء إنّما يدلّ على اعتراف الشيخ بالتّعدّديّة الفكريّة والغيريّة ، وإيمان الشّيخ مصطفى بضرورة الاحتكاك والتّبادل ، واستحالة الاستقلال والانعزال عن أناسٍ ومشايخَ جمعهم اتّجاه مشترك وبؤرة جغرافيّة ، وكما كان لهذه العلاقات وتوجّه الشيخ العلميّ ، ونهمه الشديد في اقتناء الكتب ، دور كبير في دراسة مستقبل محضرته وسبل تطويرها .

مستقبل محضرته وتحدّياتها .

 مسؤوليّةُ حماية الكمّ الهائل من التراث العلميّ الذي خلّفه والده القاسم ، التي تستشعره شخصيّة الشيخ مصطفى سيلا منذ زمن التمدرسوالتّحصيل العلميّ ، دفعته إلى دراسة آليات التّأليف ، ومواصلة مهمة التربية والتعليم التي اضطلع بها والدُه القاسم ردحا من الزمن إلى أن وافته المنيّةُ .

وهذه المسؤوليّة دفعت الشيخ مصطفى سيلا إلى إرسال أبناءه وبعضا من طلاّبه الأقارب إلى أرض شنقيط ؛ للتعمّق في الفنون العربيّة والعلوم الشرعيّة ، تلك العادة دأبت عليها معظم الأسر الدّينيّة السنغاليّة عبر التّاريخ ، وذلك بعدما درسوا العلوم الضروريّة والفنون التي يستهل بها المبتدئُ في المحضرة ، ولعودة هؤلاء كلّ من ابنه الأوّل الشيخ مختار سيلا ، والشيخ عبد القادر سيلا ، والشيخ أبي بكر سيلا ، والشيخ علي بارو عماد الدّين ، وهذا الشيخ رغم صغر سنّه ضلع راسخ في الفنون القعساء : كالأصول بشقيه الفقه والتّفسير ، وعلم المصطلح ، وعلم العروض ، والمنطق ، وعلم الحديث ، وعلم اللغة باختلاف فنونها ، وأعجوبة في حفظ المتون العلميّة ، وهذه الميزة العلميّة التي حازها أدّته إلى أن يتولّى تصحيح كتب شيخه ومربّه قبل إصدارها ، والشيخ إبراهيم سيلا وغيرهم ، دورٌ كبيرٌ في ائتزار محضرته ثوبا علميّاجديدا ، حيث عكفوا على التّدريس والتّعليم والتربية ، فبدأت تنحى منحى آخر غير المعهود في السّابق ؛ لأنّهم حاولوا اجتذاب ما شَرُد من العلوم الإسلاميّة ، وماعزّ قنَصُهُ من الفنون العربيّة . 

وهذا العطاء المعرفيّ الذي اضطلعت به محضرة والده القاسم منذ زمن التّأسيس إلى يومنا هذا ، من المنطقي أن تواجهها التّحدّيات ، من التحدّي الاقتصاديّ والاجتماعيّ إلى جانب التّحدّي العلميّ ، التي يمكن أن تعرقلها في قادم الأيّام ، أو يتأزّم مع وجودِها مجالُ هذا العطاء  التاريخيّ ، وبيقظة الشيخ مصطفى سيلا عن الأسباب التي كانت وراء ضياع الجلّ من إنتاجات علماء المنطقة ، وزوال وجمود عطاء محاضرها التّقليديّة ، سعى إلى توفير الكمية الهائلة من الكتب باختلاف أصنافها ، ووفّر أمام أبناء محضرته فرصَ الاطلاع عليها وقراءتها ، بدورها أن تقوّيَ توجههم العلميّ ، وتوسّع أفقهم الثّقافيَّ .

السّنوسيّ 

LAISSER UN COMMENTAIRE

S'il vous plaît entrez votre commentaire!
S'il vous plaît entrez votre nom ici